بالرغم من أن رسوميات المسلسل الكرتوني “مسامير” تعتمد اعتماداً أولياً مباشراً على البساطة وعدم التكلّف والتعقيد في تصوير شخصياتها، ولكنها كانت تتجاوز حدود الرسالة الفنية التي تًنتظر من كرتون بسيط أن يحقق الانتشار وعداد مشاهدات مرتفع وحسب ، بل نجد أنها نجحت بذكاء كاتبي قصصها ومبدعي السيناريو بين شخصياتها عبر كل من ” مالك نجر، فيصل العامر وعبدالعزيز المزيني ” أن تمزج بين المتعة والتسلية والرسالة الهادفة بأقل الكلف وبأبسط الحركات والإيماءات لشخصياتها المختلفة عن تلك التي تقدمها سلاسل أنيمشين أجنبية أخرى، مكلفة ومعقدة، في الطرف الآخر من العالم -كسلسلة عائلة سيمبسون على سبيل المثال- التي بدأت عام 1987 بإبداع صاحبها “مات جرونينغ” واستمرت حتى اليوم.
التسلسل الزمني الصاعد للمسلسل منذ 2011 وحتى اليوم شهد تطوراً نوعياً على مستوى صناعة الشخصيات -تجاوزت المئة شخصية- وتوسيع تجربتها ضمن الحياة وخوضها العديد من المواقف الطريفة والتي تستحق إمعان النظر وتلك التي تسترعي الوقوف وطرح أسئلة عنها لمكاشفة المجتمع حول زوايا ورؤى قد تكون غائبة عنه وتستدعي مخالفتها والوقوف بوجه تمددها المستمر الذي سيصل حتماً للأذى إن لم يتصد له أحد.
الكوميديا السوداء
استطاعت الكوميديا السوداء والساخرة “مسامير” من تقديم عينة عن المجتمع السعودي المعاصر بعد دخوله الألفية الثالثة وبعد موجة المد العالية للنفط وما أعقبته من تطورات أو ارهاصات وانتكاسات على النسيج الاجتماعي من جوانب مختلفة يصعب عادة الخوض في تفاصليها بدون أن تتسبب بحساسية أو ترفع من وتيرة لشأن جمعي ما ينبغي إعادة النظر فيه من جديد.
انتقل المسلسل من دعم شركة “لومِنك” من بداية عام 2013 ومن ثم تم تأسيس شركة “ميركوت” لإنتاج ودعم عمل الكرتون والأنميشين في سلسلة إبداع المسلسل ومن ثم تمّ الانتقال لمحتوى أكبر من التوسع بعد توقيع عقد شراكة مع نتفلكس لمدة 5 سنوات لعمل سيحمل اسم “محافظة مسامير” ما سيمنح هذا العمل فرصة كبيرة للانتشار خارج حدود المملكة السعودية.
الشركة المنتجة
تعرّف الشركة المنتجة (ميركوت للأنميشين) عن نفسها، كصانعة للمحتوى المحكي عنه بالمسلسل، ضمن موقعها الإلكتروني الخاص أنها “رائدة في مجال صناعة المحتوى والأنميشين في المملكة العربية السعودية، حيث “تمتاز” بأعمال ثنائية وثلاثية الأبعاد ذات محتوى محلي يعكس الطابع الثقافي للمجتمع السعودي والخليجي، تأسس الاستديو على يد زمرة من الفنانين السعوديين المبدعين في 2011 لتحصل صفحتها على اليوتيوب منذ ذلك الحين على مجموع مشاهدات تتجاوز 500 مليون مشاهدة ومليوني مشترك.”
كان المسلسل انقلاباً من كاتب القصص والسيناريو فيصل العامر على عالم التضييق في أحد عواميد الصحافة في جريدة “شمس”، حيث كانت عين الرقيب ومقصه تفعل فعلها، فانقلبت مادة صحافية كان يقرأها بالكاد الآلاف، لتصير مادة بصرية ماتعة ومسلية يشاهدها الملايين!
وجدت إحدى الحلقات متنفساً لها بعد أن سكنت عموداً صحافياً كان يكتب فيه بعضاً من الأفكار، ومن ثم خرجت حلقات من صفحات كتاب لفيصل بعنوان “شغب”، وأما مسمى المسلسل فكان من ذاكرة شريك الإبداع مالك نجر، عن اسم لحارة سبق أن سكنت ذاكرته فأراد أن يتشارك مع المشاهدين بعضاً من الصور فيها، وتشارك المبدعان بصناعة بصرية لطيفة أخذت مكانها على الساحة السعودية.
تنتقد السلسلة عقلية الأفراد بقولبة مسلكياتهم ضمن قوالب هزلية ساخرة، ما يجعل منهم مثالاً ينبغي أن يتم اجتنابه لفرط سلبيته أو تأثيره الجارح على ما يحيط به من أشخاص- بل وحتى حيوانات أو نبات أو جماد- هناك أنماط لشخصيات المتكبرين والمتنمرين والذين يقومون بإيذاء الحيوانات والبيئة، وهناك الساخطون على مجتمعهم وهناك المتعالون على الناس وأصحاب اللسان المعسول الذي يحاولون بيع منتجاتهم دون أن يهتموا البتة، لذائقة وما يناسب المشتري.
كما ينتقد المسلسل الأنماط الشخصية، يقوم أيضاً بانتقاد الأفكار البالية من مثل التفاخر بالأنساب في مجتمع تُقدّس فيه القبلية، وربما ولهذا السبب بالتحديد فقد قام مبتكرو المسلسل بوضع شخصية الكلب الإنكليزي ضمن شخصيات المسلسل، وليكون عنصراً أساسياً ومميزاً فيه، لكسر رهاب الطوق الاجتماعي الذي يمايز بين البشر بناء على جنسياتهم، ولعل اختيار أن يكون اسم الكلب طراد ريتشارد قلب الأسد هو رسالة أن الناس قد تقبلته بكل مزاجيته المضطربة وفوقيته لأنه يمتلك جواز سفر وجنسية تحترم صاحبها، بالرغم من أن مبدعي الشخصية قالوا في لقاء أن صناعة شخصية الكلب كانت بالصدفة البحتة ورُسمت على عجالة أيضاً!
يثير المسلسل أيضاً أفكاراً عن عالم الإدارة، وأكاذيب وأوهام دورات التنمية البشرية، إشكالية الفشل الإداري وعدم دعم أصحاب الحاجة الحقيقية الذين يحتاجون للدعم والمساندة على مستوى الدولة والأفراد والمجتمع، لأن المنظومة الفاشلة تضع أشخاصاً لا يعرفون قيمة لهؤلاء المميزين الحقيقين.
ويتحدث عن صراعات باردة على شكل ثنائيات بين النسوة بعضهن ببعض، والغيرة بين الجيران، ويرسم لنا صوراً عن الليبراليين المتنمرين بمقارنات هزلية مع المتشددين المتحجرين، بين الثيوقراطيين التقليديين من جامدي العقول والمنطق، والعلمانيين الصداميين الموكلة إليهم مهمة الإسراف المرضي بالسخرية من خصوصيات الآخرين، ويقول أن كلا الصنفين لا يراعي ولا يفهم خصوصية المجتمع ويساهم في تأخر رفعته، ويزيد من رقعة الإحباط من توافر الأمل، من انتشاله من حاله الراهنة التي تمتلئ بالصدام والترهل والوقوع ضحية الانجراف تجاه تيار ما دون إعمال للعقلانية بتمحيص الخيارات المعقولة التي تتماشى مع خصوصية المجتمع، خصيصاً مع تنامي رقعة التفاهة والسذاجة بالتعاطي مع الواقع والأحداث المحيطة.
هناك أيضاً شخصيات تعبر عن اللئيم والفوقي والمتسلط، تم الإشارة اليها على أنها شخصيات مريضة بأمراض مركبة يمكن أن تهوي بالأفراد والمجتمع، نحو شفير الهاوية.
مبدعو المسلسل
لا ينسى مبدعو المسلسل شخصيات ابتليت بها المنصات الأدبية من المتشاعرين، خصيصاً أصحاب النثر الحديث الذين يحبون أن يُشار لمقولاتهم النثرية على أنها مقولات فكرية عميقة شعرياً، مفرطة الحساسية، لا يعرف مقدارها ويفهما حق الفهم، إلا أصحاب الذائقة الأدبية، ولذلك نجد العديد من اللقطات الهزلية التي تضع أمثال هؤلاء موضع التساؤل فيما لو كان لما يقولون من معنى، ويستحق هذا التصفيق، أو تصنيفه في خانة الإبداع أساساً!
يرسم عالم البكسلات الذي تعتمد عليه الرسومات عامة، لتحمل أبعاد الشخصيات المرسومة للمسلسل عالماً من العقليات والذهنيات المتشابهة والمتطابقة ويقوم بالبناء عليها في مقاربته للمجتمع الذي يمتلئ بالأنماط التي لا تختلف عن بعضها، بل وتتشابه لحد يثير الريبة والمخاوف من وأد أي أمل بالخروج من حالة السكون والركود الذي يعاني منه النسيج الاجتماعي للمجتمع السعودي، كما غيره من المجتمعات العربية.
لا ينسى مبدعو المسلسل التحدث عن عالم تشجيع كرة القدم بعدة مقاربات وهو يرسم صورة نمطية عن عالم الشهرة والمال الوفير والأحلام السريعة بالنجاح والتحليق في عالم النجومية الوردي، ويرسم كذلك أشكالاً من سلبيات التشجيع والعنصرية والتحيز لصالح منتخب أو فريق وما يرافق ذلك من إشكاليات استقطابية.
استعانت بعض الوزارات الحكومية السعودية، بل وبعض مؤسسات ومنظمات وجامعات وفعاليات اقتصادية بالمسلسل الكرتوني كي تبث عبره بعض رسائل التوعية بمختلف أشكالها وهذا يُعدّ نجاحاً ملفتاً أن يتم الاستعانة بمنتج كرتوني ليحمل عبء رسالة توعوية كانت حكراً على مؤسسات الإعلام الرسمية بكل فروعها، المقروءة والصوتية والمرئية.
تشكيلة “يعرب” كانت بنظر كاتب هذه المراجعة نقلة نوعية عن إمكانية الكتابة بطريقة سينمائية ملفتة وناجحة وبطريقة مشوقة تضج بالمغامرة، عبر استحضار أساطير وقصص قديمة ومعالجتها بطريقة طريفة لا تخلو من فائدة وطرافة، حتى وإن تفاوتت جودة النص، تشارك في كتابتها كل من: عبد العزيز المزيني، مالك نجر، يزيد القرني.
أما الفيلم الذي قدم نقلة جميلة تدعم مقدرة مبتكري المسلسل على إبداع يتجاوز حلقات اليوتيوب وعالمه المجاني ليدخلوا ساحة المنافسة مع منتجي الأفلام الكرتونية ذات المحتوى والرسالة، فكان الفيلم رسالة ضد متصنعي البطولة والذين يتصدرون العمل والمؤسسات والشأن العام ويدعم الكلمة الطيبة بمواجهة العنف والصدام الناتج عن الإهمال والقسوة والتمييز بين الناس، وقد كانت أحد شخصياته الأساسية فتاة سعودية تعمل في الحقل الابتكاري لعالم الروبوت وهو عالم صناعة الغد، وتوافر شخصيتها ضمن الفيلم يعتبر خطوة جميلة للغاية، تنظر لمستقبل واعد للإناث في مجتمعاتنا المتكلسة.
أخيراً، كنت لأرغب أن يقدم المسلسل تفسيرات لبعض العبارات تفك الشيفرة للهجة سكان المملكة السعودية للمتابعين العرب، وبهذه الطريقة يقدم المسلسل فرصة ذهبية لنشر اللهجة المحكية وتطبيع جرس نطقها لدى أسماع المشاهدين العرب، وقد فعل مبدعو المسلسل هذا مؤخراً فقط، في حين غابت الفكرة عن السنين السابقة عموماً، وضاعت الفرصة لنقل مضامين لا يعرف عنها أحد إلا القليل، في العالم العربي.
كاتب سوري
تعليقة وشرحك رائع استاذ عبد الكريم
مقالة غنية ومهمة .. كل الشكر