حال الشعر يعبر عن ذاته من إهمال المؤسسات الثقافية العامة والخاصة، وتراجع في نشر الدواوين الشعرية، ودعم النشاطات التي تروج له ولمبدعيه، مقابل صعود الرواية والاهتمام بها كليا على حساب الشعر (ديوان العرب) تاريخيا والمهمش حاليا. يظل السؤال قائما عن مستقبل الشعر، سؤال يوجه لكل مبدع حاضر بنتاجه وفكره.. كيف ترى هذا المستقبل؟
لا خوف على الشعر
يقول الشاعر الفلسطيني طه العبد: لا أرى أن هناك قلقا حول مستقبل الشعر، فهو بخير ما دامت اللغة، بخير لأن اللغة حارسة الشعر الأمينة، والقصيدة التي تلامس الناس تفرض نفسها بلا منازع، وكذلك الشاعر يتألق وهناك الكثير من الشعراء نسمع بهم كل يوم فمنهم من يثبت، ومنهم من ينكفئ ولا يعني هذا تراجعا، أو موتا للشعر. مستقبل الشعر، بل هي تسير باطراد إلى مستقر لها لا تقر به، بل يكون منطلقا لفضاء شعري جديد. في الآونة الأخيرة بتنا نشهد مثلا عودة واسعة، بل هجرة جماعية نحو قصيدة العمود الشعري، وعلى البحور الخليلية، حتى أولئك الذين حاربوها زمنا باتوا يعترفون بأن موتها المعلن في زمن ما، كان استراحة محارب، ما يعني أن فنونا شعرية أخرى ظن البعض أنها اندثرت هي الآن في بيات شتوي مؤقت، وستنبعث ذات يوم من تحت رمادها، لذا لا خوف على الشعر في المستقبل، إنه يبدل أثوابه يجدد ثوبا قديما، ويعيد تجديده ويغير ثوبا بآخر، ولكنه في كل مرة هو حريص على أن يبدو في أبهى حلة هكذا أرى مستقبل الشعر.
العالم بحاجة إلى الشعر
بينما تقول الشاعرة المغربية ليلى بارع: إنه مستقبل الإبداع عامة والكتابة خاصة. العالم بحاجة للشعر كي يفهم نفسه بشكل أعمق وأفضل، نحن بحاجة للشعر في المدارس والشارع والمقاهي، بحاجة لتغيير أنفسنا وتهذيبها. الدفع بالشعر للواجهة يحتاج لآلة إعلامية قوية ولرغبة حقيقية بمناهجنا التعليمية، لأمسيات شعرية تقترب من الجمهور، من طلبة وتلاميذ، وأدعو لفتح أبواب المدرسة العمومية والجامعات أمام الشعر. للشعر جانبه النخبوي، ولكن لديه أيضا جانبه الإبداعي الذي يأسر القارئ والمستمع.
الحياة غير ممكنة خارجه
ويرى الشاعر والناقد العراقي طالب عبد العزيز، أن الحياة ستظل بحاجة إلى الشعر، الشعر بمفهومه العام، وليس المكتوب منه، ومن التعسف، أننا نقرأه وفق ما نعاني من مشاكل يومية في العمل والبيت والمؤسسة. الحياة لدينا شبه بدائية، نحن لم نتطور بعد، وقد نكون أحوج من غيرنا للشعر. قد تصح المخاوف على مستقبل الشعر في مكان آخر من العالم، حيث تبتلع الماكينة الإلكترونية الجســد والروح أيضا، لكننا نـــجد ما يختلف أيضا. ولكي لا نذهب في التـــفاؤل بعيدا، أقول بأن مساحة الشــعر قد تضيق، فيصبح قضية شخصية، وهذا أمر واقع عند كثيرين كتّابا ومريدين. ولا أعتقد بنهاية قريبة أو بعيدة للشعر، حتى ضمن هذه الرؤية التي تضيق. لا أخشى على مستقبل الشعر، لأن الحياة غير ممكنة خارجه، وما هذا بدفاع عنه، لكنه قول محبٍّ عاشق للحياة.
عصر انحطاط
أما الشاعرة اللبنانية فاطمة منصور فتقول: لطالما كان الشعر عموما، مرآة لواقع اجتماعي ووجداني، بل كان مرآة لطموحات الشعوب في توقها للحرية والتقدم، إضافة إلى ما يمثل من قيم جمالية، تسهم في تهذيب الذوق الفني عموما، خصوصا في ظل مفهومه الإبداعي بأنه رؤية جديدة تستشرف مستقبل أي شعب. قيمة الشعر في مدى انبثاقه من تفاعل عميق مع البيئة، ومواكبة تطوراتها وتطلعات الناس، لذلك كان الشعر عامل تدوير لكثير من المجتمعات. غير أن الشعر يفقد فاعليته وقيمه الجمالية، في ظل تراكم تطورات تربك الشاعر، بقدر ما تربك النخبة الرائدة. ففي حين يفترض بالشعر أن يبتدع النوافذ للمضي نحو الغد ترى الشعراء يتحولون إلى خطابات انفعالية وشعبوية تفقده قيمته الجمالية. هذا ما نلاحظه في مجتمعاتنا اليوم، وربما على مستوى العالم، حيث تراجع موقع الشعراء أمام زحف التكنولوجيا والعلوم، بحيث انصرف الشعراء عن مهماتهم الجمالية إلى أفكار تتصل بواقع محكوم بالمادة والمنفعة فقط، فانكفأ الشعر والشعراء فيما تحول الكثيرون إلى أبواق تروج لأصحاب الشأن وإليهم، هناك فريق اتخذ مذاهب أدبية جديدة تحت شعار الحداثة مبتدعين أشكالا جديدة للنص الشعري شكلت قطيعة مع التراث فنأى النقد الأدبي عن الساحة الأدبية التي باتت مسارح للشويعرين والشويعرات ليأخذوا الشعر إلى ما يذكّر بعصر الانحطاط.
الشاعر الحقيقي
ويرى الشاعر الليبي خالد المغربي، أن مستقبل الشعر رهين بواقع أمة الشعر. لقد كانت القضايا العربية لصيقة بذهن المواطن العربي، وكان الإعلام العربي إعلاما ينقل واقع الأمة بالتزام تجاه الشعور العام للشعوب العربية، قبل انتشار الفضائيات، وقبل حتى التلفزيون، كانت الصحيفة الورقية والمجلة والمذياع سبيل انتشار للقيمة الحقيقية للقصيدة وللشارع، الذي التزم بقضايا واقع أمته فبين التزام الشاعر بواقع قضايا أمته، والتصاق هذا الواقع بذهن المواطن العربي الحريص على مصير أمته وانتصاراتها، كانت تنتشر القصيدة وتجد مكانها المرموق في الأنفس التي ترتقي بها، ولكن بعد انتشار الفضائيات في الوقت الذي ظهر فيه الإرهاب، أصبحت مسألة ارتباط ذهن المواطن العربي بقضايا أمته مسألة تتجاوز أهمية ما تم تصديره لبلاده من الإرهاب فبانشغال الإعلام بشكل عام بعيدا عما يجمع العقل العربي حول القضية الفلسطينية مثلا، تجزأت بتجزؤ قضايا المواطن العربية القصيدة، وانغلق الشعراء داخل قضايا مجتمعاتهم، وكان للشعر العامي رواجا كبيرا أضرّ بدور القصيدة العربية، في ظل شعور الشاعر بعدم اهتمام المشهد العام بالقصيدة الشعرية الفصحى. إن الخيبات والانكسار وعدم الجدوى، جميعها ترسبات للأسف تركت أثرا سلبيا داخل نفس الشاعر، فماذا يمكن أن يقول عن هذا الواقع أكثر مما قاله الجواهري والنواب وأحمد مطر وغيرهما. وهذا يمكن أن يقول عن الحب والغزل أكثر مما قاله نزار قباني. الموضوع يحتاج إلى تجديد حقيقي فكل محاولات التجديد التي أضرت بالقصيدة العربية لغة ومضمونا. مستقبل الشعر يتوقف على إبداع الشاعر الحقيقي ليس التقليدي الذي يتفنن في استعراض عضلات اللغة والوزن على حساب جماليات القيمة الحقيقية في الصورة والمعنى.
العمى الثقافي
وفي الأخير تقول الشاعرة الليبية حواء القمودي: حقيقة لا مستقبل للثقافة، سواء شعرا أو قصة أو رواية. وأحكي عن خصوصية ليبية، فلا وزارة الثقافة لديها رؤية في اختيار ما تطبع من أعمال، ولا وزارة التعليم استطاعت أن تقوم بالتحديث في المناهج الميتة، يتخرج طلابنا وطالباتنا من كليات أدبية، بدون أن يعرفوا مراحل تطور الإبداع الليبي وسماته وخصائصه، ومن هم مبدعوه ومبدعاته. فأي مستقبل للشعر أو للرواية، أو لأي منتج ثقافي في عمى كهذا، لا يبصر حتى تحت قدميه، أما إذا أخذت السؤال على إطلاقه: ما مستقبل الشعر، فإجابتي أن الشعر سيظل كما ستظل الرواية وكل أنواع الفنون، لأن وجودها منوط بوجود هذا الإنسان/ الإنسانة، وهما في سديم الحياة يجدان أنهما ينبضان بسر مبثوت في الروح ومكنون في خبايا ذات متفردة. قد تكتب هذه الذات شعرا أو قصة أو رواية، أو تركض في براري المعرفة الشاسعة، مستقبل كل شيء يرتبط بوجود هذا المخلوق.
حاجتنا للشعر كالحاجة للماء والخبز والهواء النقي..
لكن اتساءل مرة اخرى على غرار اسئلة المشاركين
هل ما زال الشعر ضروري في هذا الزمن الموبوء ،او بعد زمن الكورونا …؟
دم بجمال