التوقعات التي استشرفت تطور موجة التطبيع واتساع حدودها، أثبتت قصر نظرها، فخطوات التطبيع مع الكيان الصهيوني بقيت محدودة وغير قابلة للامتداد والتوسع، ومحصورة في دول معدودة.
الموجة الأولى للتطبيع بدأت مع دولة الإمارات والبحرين، ثم انتقلت إلى السودان، مع تحفظ بعض الدول، كالمغرب والأردن، بحجة أن رؤية إدارة ترامب للسلام، التي صاغها صهره كوشنير، تتضمن مقتضيات تحتاج إلى قدر كبير من التأني في القراءة ودراسة التبعات.
تصور إدارة ترامب للتطبيع، كان يمزج بين الرغبة في التسريع بالتوقيع، وبين الضغط على الدول باستعمال العصا والجزرة، لكن الارتهان باللحظة الانتخابية الأمريكية، والاستيعاب الدقيق لمقاصد ترامب، جعلت الموجة الثانية للتطبيع، مختلفة عن الأولى.
الموجة الأولى، ارتبطت بمفهومين اثنين: مفهوم الحماية، وتنطبق هذه الحالة على البحرين، التي تخشى أن تعيش نفس حالة اليمن، بسبب الخوف من أدوار الشيعة واصطفافاتهم الإقليمية، وأما المفهوم الثاني، فيرتبط بمفهوم التوسع الموجه، وتنطبق هذه الحالة على دولة الإمارات التي تتطلع إلى لعب دور إقليمي واسع، بدعم إسرائيلي موجه، يتوافق بشكل كامل مع الرهانات الإسرائيلية في المنطقة العربية، في تقويض الوحدة السياسية، وإثارة الصراعات الإقليمية والأهلية والطائفية، والسيطرة على مواقع الثقل الاستراتيجي العربي (الموانئ).
الموجة الثانية، اتسمت بالتحلل النسبي من الضغط، وفهم الإكراهات الأمريكية، وحاجة ترامب إلى إحراز نصر ولو شكلي، يقدمه بين يدي الحملة الانتخابية. ولذلك، اتجهت إلى التحكم في حجم التطبيع وحدوده، مع التوثق من الكسب الذي يمكن أن يتحقق من وراء التطبيع.
بدأت الموجة الثانية مع الحالة المغربية، التي وقعت اتفاقا مع إسرائيل، وأبطأت بشكل كبير مسارات تطبيقه، ووضعت في الكفة المقابلة الكسب الذي ستجنيه من هذا الاتفاق، وما يعود على قضية النزاع حول الصحراء بشكل رئيس، سواء بانتزاع الاعتراف الأمريكي بسيادة المغرب على صحرائه، أو بإبرام صفقات كبرى مع أمريكا في المناطق الجنوبية الصحراوية، بما يعزز سيادة المغرب على أرضه، ويقيد أي محاولة منها للتحلل من التزامها.
تندرج حالة السودان ضمن هذه الموجة، فمع الخلاف الذي اخترق مكونات الطيف السوداني، العسكري والسياسي المدني حول التطبيع، لكن في الجوهر، التزمت الحالة السودانية بمواصفات الموجة الثانية من التطبيع، إذ قايضت بين التطبيع، وبين الحصول على دعم مالي واقتصادي ينتشل البلاد من الأزمة الاقتصادية التي تعانيها.
الموجة الثالثة للتطبيع، بدأت معالمها تتضح، وشروطها بالقطع ستكون أيسر بالنظر إلى شروط الموجة الثانية، فتونس التي تعيش أزمة اقتصادية ومالية خانقة، مرشحة للدخول في هذا المسار، رغم وجود ممانعة شعبية وسياسية، فالرئيس قيس سعيّد، تحت ضغط الحالة الاقتصادية والمالية، وربما تحت ضغط المقاومة السياسية والشعبية لقراراته، يمكن أن يسير في هذا الاتجاه، كما أن موريتانيا، هي الأخرى، ستجد نفسها مضطرة للتوغل في التطبيع، لأن لعبة التوازن التي كانت تستعملها لإدارة العلاقة بين المغرب والجزائر، لن تكون بالنسبة إليها خيارا في المرحلة المقبلة، وهي تريد بالقطع أن تشارك المغرب المكاسب الاقتصادية والمالية، من جراء الصفقات الكبرى التي ستنطلق من المغرب إلى العمق الإفريقي.
عنوان الموجة الثالثة، سيكون هو الإكراهات التي ستبرر بها كل دولة تسابقها نحو التطبيع، فالشروط العربية الحالية، لم تعد تمتلك المقومات التي يمكن أن نستشرف بها استمرار سمة المقاومة. كان من المفترض أن تسارع السعودية للتطبيع ضمن الموجة الأولى، لكن الحساسيات الدينية، وترتيبات السلطة التي كانت تجري عن كثب داخل الأسرة المالكة، فضلا عن تأثير قضية خاشقجي، كل ذلك، دفع المملكة إلى إبطاء الخطى نحو التطبيع، وتحين الفرصة المناسبة للإعلان عن ذلك.
التطبيع المعروض اليوم على الدول العربية لا يحمل أي مقومات القوة التي تسمح له بالصمود فهو لا يقدم أي تصور مقبول فلسطينيا وعربيا لحل الصراع العربي الإسرائيلي، ولا لحل القضية الفلسطينية
الكويت لها نفس الحساسية السابقة، وربما تقاسم الحالة السعودية بعض الشروط، من قبيل ترتيب نقل السلطة إلى ولي العهد، لكنها تنفرد بخصوصيات تتعلق ببنيتها الطائفية، ورغبتها الحفاظ على لعبة التوازن التي تديرها مع إيران، كما لا تريد في هذه الفترة أن تواجه مقاومة سياسية ومدنية عارمة، تعجز عن إدارتها في ظل الإكراهات السابقة.
مشكلة الأردن مع التطبيع، ربما تختلف عن بقية الدول، فمشروع التطبيع الذي وضع فوق الطاولة، يستهدف الأمن القومي الأردني، بل يستهدف وجود الدولة، ولذلك، تحاول الأردن، أن تغير جزئيا من دورها، حتى تقيم التوازنات التي تسمح لها بالبقاء في مربع المقاومة، ولذلك، اتجهت إلى إنتاج دور جديد لفك العزلة عنها، وأقنعت واشنطن وموسكو، بضرورة إنهاء خيار الاستثمار في الإطاحة بنظام بشار الأسد، وضرورة عودته إلى الحاضنة العربية والإقليمية، وبذلت مساعي من أجل الدفع بهذا الخيار على أوسع نطاق.
ما من شك أن العدوان الإسرائيلي على غزة، وما أعقبه من مقاومة عسكرية صلبة بذلتها حماس وبقية فصائل المقاومة الفلسطينية، أبطأت موجات التطبيع كثيرا، وربما سمحت بتقييم الموقف من جديد، وبدأ تطرح على الطاولة سؤال الجدوى من تطبيع مع الأطراف مع حرب مع المركز (فلسطين المقاومة) بل غيرت هذه الحرب المعادلة تماما، فالمقاومة التي كانت تبحث عن حاضنة عربية لتسويغ عملياتها المشروعة، صارت الدول العربية، على الأقل، الراغبة في الالتحاق بموجات التطبيع، تجد صعوبة في المضي في هذا المسار في ظل حرب مفتوحة بين الكيان الصهيوني والمقاومة الفلسطينية، فعدد من الدول، تأخرت في الإعلان عن الالتحاق بموجة التطبيع، أو أصرت على ألا يكون ثمن التطبيع، هو العداء للمقاومة. فالمغرب مثلا، استقبل وفدا من حركة حماس بعد الإعلان عن وقف إطلاق النار، وأصر على الاتصال بالطرف الفلسطيني، غداة التوقيع على اتفاق الرباط، والتأكيد على موقف الرباط المبدئي من القضية الفلسطينية.
الموجات الثلاث التي عرفها التطبيع، مع احتمال التحاق دول عربية أخرى، لا يعني حصول تقدم في مساره، لسبب بسيط أن الشروط التي بني عليها ليست دائمة، بل مؤقتة، ويمكن أن تزول بزوال هذه الشروط.
فالتطبيع المعروض اليوم على الدول العربية، لا يحمل أي مقومات القوة التي تسمح له بالصمود، فهو لا يقدم أي تصور مقبول فلسطينيا وعربيا لحل الصراع العربي الإسرائيلي، ولا لحل القضية الفلسطينية، وحتى وعود الرفاه الاقتصادي في المنطقة، التي بشر بها الكيان الصهيوني، لا تمتلك من الحجج التي تدفع الاقتصاديين بالتصديق على إمكان تحققها، هذا فضلا عن وجود تخوفات عربية جدية من الرهانات الثاوية خلف هذا المسار، والذي لا يضر فقط القضية الفلسطينية، وإنما يضر بمستقبل وأمن الدول المطبِّعة أيضا.
ولذلك، إذا كان التوقع، يمكن أن يذهب إلى حدود افتراض التحاق دول أخرى ضمن الموجة الرابعة، فإن المدى المتوسط والبعيد، يحكم بخلاف ذلك، سواء في سيناريو استمرار النزعات السياسية والفوضى الأمنية، أو سيناريو المصالحات والتسوية السياسي. سيناريو تفكك الدول العربية، ونشوء الفوضى الأمنية في عدد من الدول، لن يكون مفيدا لمسار التطبيع، لأن التطبيع يفترض وجود قيادة سياسية قادرة على الإقناع بجدوى انخراط الدولة في التطبيع، كما أن سيناريو المصالحات، تسوية النزاعات السياسية، سواء في سوريا أو العراق أو ليبيا، أو حتى تونس، لا يخدم هو الآخر، خيار استمرار موجات التطبيع.
الوضع الإقليمي المحكوم بصراع بين الولايات المتحدة ألأمريكية وإيران على خلفية الملف النوي ونفوذها الإقليمي، ومعادلة الصراع الفلسطيني الصهيوني التي يمكن توقع حرب قريبة بينهما في أي لحظة، تعزز هذه الخلاصة، وتجعل من مسار التطبيع مسارا بدون مستقبل على الأقل في المدى المتوسط والبعيد.
كاتب وباحث مغربي
بسم الله الرحمن الرحيم
ورد في المقال
الخوف من أدوار الشيعة واصطفافاتهم الإقليمية،
التعليق
ان لم نعتبر أن الشيعة إخوة لنا فستهوي الأمة في دوامة تنتهي: بجهنم الحمراء . فالطرفين الشيعي والسني لا شك أنهما من المسلمين ويجب أن يكون شعارهما المنطقي المأمول :الظفر لابخرح من اللحم !هذه حكمة الله فينا.
أورد الكاتب:
الوضع الإقليمي المحكوم بصراع بين الولايات المتحدة ألأمريكية وإيران على خلفية الملف النوي ونفوذها الإقليمي.
التعليق:
السياسة الإيرانية عميقة وعريقة للغاية ، وليست كالسياسات العالمية الأخرى! فهي قادرة ببراعة مذهلة على المواءمة مع غيرها من السياسات ولكن يبقى الأولوية عندها هي: الهدف المقدس! في حين يستعصي على تفكير الآخرين السطحي فهم تكوين التصرف السياسي الإيراني العميق السري باخلاصه للمبدأ وبينما هو المرن ظاهريا الذي تحتمه ضرورة المصالح بين الدول.
عفوا تصحيح الخطأ المطبعي
الظفر لايخرج من اللحم
تبريرات واهية للتطبيع والخيانة والاستقواء على الإخوة بالأعداء والسعي لاحتلال أرض الغير باللف والدوران وتبرير ما لا يبرر. للتطبيع مع العدو هو خيانة لله ورسوله ولإخواننا الفلسطينيين المقاومين المجاهدين نقطة إلى السطر.
و هل السعي الى تقسيم بلد مسلم ليس خيانة لله و رسوله
لا اشاطرك الرأي لسبب بسيط و هو ان اسرآئيل ستخرق كل الاتفاقيات اللتي ابرمتها مع الدول المطبعة و ستعمل كل ما في وسعها لإسقاطها في الافخاخ و المصائد ليوم تعلمه هي..بدأا باختراق حكومات الدول و البطرونة الى الجمعيات العاملة لمصالحها تحت مسمى الوطنية الى الدولة العميقة اللتي تملك كل ما يلزم لإثارة الشعب و اعادة برمجته العصبية …هذا هو هدف اسرآئيل من حصولها على التطبيع اما ما عدا هذا من اعتراف بمغربية الصحراء مقابل التطبيع او ضخ الأموال مقابل التطبيع او الحماية مقابل التطبيع فوسيلة للوصول الى التطبيع لا اكثر …