مسلات عبد الستار البيضاني… متوالية قصصية

أخذت وتيرة الحديث عن المتوالية القصصية بالتصاعد بين النقاد والكتاب العراقيين بعد أن ألقى ثائر العذاري حجرًا في البركة الساكنة، وانقسموا كعادتهم دائما في استقبال ما هو جديد على فريقين، فريق يرفض أن تكون المتوالية القصصية جنسًا أدبيا، وحجته في ذلك، ألا مسوغ يدعو إلى ولادة جنس أدبيٍّ جديد، وآخر يحاول إثبات أن المتوالية القصصية جنسٌ أدبيٌّ، ليس وليد الحاضر، وإنما ولادته كانت في مشارف القرن العشرين، وبعيدًا عن هذا الحراك النقدي، رحت أفتش برويّةٍ في نماذج قصصية عراقية عن ملامح للمتوالية القصصية، وهل ثمة قصدية في كتابة هذا اللون القصصي؟ فوقعت بين يدي مجموعة القاص عبد الستار البيضاني «المسلات» التي جنسها على غلافها بـ(نصوص سردية)، وهي علامة أولية تشي بأنَّه يدرك، أن ما كتبه هو أمر آخر غير القصة ، وإلا لكتب عليها كما في مجموعاته السابقة (قصص)، وأنَّ كلمة الناقد حسين سرمك حسن، في الغلاف الأخير «أبطال المسلات أو بطلها فهو واحد، يحاولون العثور على مسلتهم التي يحملونها كتعويذة تفلتهم من شدقي الموت». توحي بأنَّه كان على وعيٍ تام بأنَّ ما يقرأه شيء آخر، لم يسمها قصصًا؛ بل سمّاها مسلات، وبعيداً عن هاتين العتبتين المجاورتين الغلاف الخارجي بصفحتيه الأولى والأخيرة، يمكن القول: إنَّكَ عندما تقرأ الكتاب تشعر بأنك أمام مشروعٍ كتابيٍّ واحدٍ، وليس نصوصًا كتبت متفرقة.
إن القراءة المتأنية لتلك النصوص السردية، توحي بأنَّ الكاتب أراد أن يوثِّق فكرةً واحدةً على طول تلك النصوص، لذلك كانت الحربُ هي الموضوعُ المهيمنُ عليها ففي النص الأول «عندما ضاقت قبضة الموت على رقبتي رسمت بالمكركروم واليود والجبس صورةً لنهر دجلةَ في بغدادَ، أردت أن تكون آخر ما أفعله في حياتي.. لكن الحرب لم تنته» (المسلات 7).
وفي مسلة الأصدقاء، «الحرب لعبت بينا طوبة» تنطقها وأنت مطرق الرأس، أرح شعرك المسكوب على جبهتك، وأصطنع خشونة وصلابة لا امتلكها». وفي مسلة الحب، «فقد عودتنا الحرب أن نعيش غربتنا خلسة». وفي مسلة الشجر، «فأنا أعرف أن الجنود يقاتلون بدون لحًى، إلَّا في الأيام التي يشغلنا فيها الموتُ عن كلِّ شيءٍ». وفي مسلة اللحظات المدببة، «وأنا اجتاز تلك المدارات الحرجة التي تفصل بين زمن السلم ـ الاستقرار- وزمن الحرب – الموت». وفي مسلة الوفاء: «اختار لنفسي ميتة من آلاف الميتات التي تخترعها لنا الحرب يوميًّا». وفي مسلة الأمهات «طوال سنوات الحرب لا شيء أخشى مواجهته، مثلما أخشى اللحظة التي تودعني فيها جدتي عند ناصية الشارع يوم انتهاء إجازتي».
ظاهرٌ، هنا، أنَّ الكاتب جعل موضوع الحرب، المحور الأساس الذي تدور حوله نصوص المجموعة كلها، إلى جانب موضوع الموت الذي هو لصق الحرب، بل يكاد يكون وجهها، فلعل واحدًا من معانيها الانكسار، الذي يؤدي إلى الموت، مثلما يكون من معانيها الانتصار الذي لا يتحقق إلا بالموت. أمّا العنصر الآخر الذي يجعل المسلات متوالية قصصية فهو المكان؛ إذ تبدو السواتر، والخنادق والملاجئ، ومستشفى الميدان، والخلفيات والمتقدم، وهي مصطلحات مكانية حربية، لا تغادر مخيلة البيضاني، فقد صارت الحرب صورة «جمعت كلَّ الدنيا في إطارها الدخانيِّ اللدن؛ صورة بعرض أظفر الأبهام، لا أعرف إن كنت أريد أن أخرج منها او أدخل فيها». كما جاء في مستهل (مسلة قابيل). لقد كان المشفى هو المكان الذي تدور فيه مسلة قابيل؛ لكن أي مشفى؟ إنه مستشفى الميدان، فضلًا عن السواتر المتقدمة؛ إذ تنهال القذائف على الرؤوس، ولم يكن لدى البطل سوى الإفلات من قبضة الموت. وفي مسلة الأصدقاء، فالساتر هو مكان الروي، فالبطل يستعيد ذكريات الحرب الموجعة، التي كان مكانها الساتر، وموسيقاه أزيز الطائرات والمدافع.
وثمة أماكن أخرى لا يمكن للمرء أن يغضَ الطرف عنها، هي مرابع الصبا لأبطال هذه المسلات، كأزقة (مدينة الثورة) و(ساحة السدة) لكرة القدم، أو (ساحة سعد) في البصرة تلك الساحة التي تمتلئ بالجنود الباحثين عن وحداتهم بعد انتهاء المعارك الكبيرة، أو (ساحة أم البروم) في البصرة، فلا غرو أن يجد المرء أن مدينة البصرة وشوارعَها ومدنَها تتكرر في مسلاته، وكأن البيضاني معنيٌّ بموضوعِ الحربِ، وما نتج عنها من تداعيات أصابت الشخصية العراقية بجملة أمراض أثرت عليها اجتماعيًّا وسلوكيًّا.

لقد تشابهت الشخصيات في المسلات الأخرى، مسلة الشجر، ومسلة اللحظات المدببة، ومسلة الوفاء ومسلة الأمهات، إذ لم يتغير شيء في طبيعة الأبطال فهم دائمًا من أبناء السواتر، الذين خبروا الحرب والموت، حتى صار حديثهم عنها حديث العارف عن أدق تفاصيلها

ومن الجدير بالأهمية أن البيضاني لم يترك شاردة ولا واردة في مشاهد الحرب تلك، إلا وثقها، وكأنه معني بكتابة تاريخ الحرب، فلم ينسه أزيز الرصاص أن يرصد حركة الشارع البصري الذي خلا من أهله، ولم يبق إلا المصريون وهم يقومون بأداء الأعمال الحياتية فيه. «يلوذ المصريون تاركين صناديق البيض والتفاح والموز الصومالي المهرب من الكويت تملأ الساحة المتسخة». ولم يتغير مكان مسلة الحب عن سابقاتها، فهو فضاء الحرب، بكل ما فيه من أمكنة مفتوحة، كساحة المعركة، والسواتر، أو مغلقة كالملاجئ. ويشكل الساتر الأمامي المكان الأكثر ترددًا في هذه المسلات، فهو المكان الأثير عند البيضاني وهو يسطرُ هذه المسلات على الورق بحرفيَّة عاليَّة، فهو كما يبدو معنيّ بكتابة تاريخ الحرب، ليس كما يوثقها قادتها ومؤيدوها، بل عبر الوقوف على ما هو مخفي منها، تلك الحرب التي لم يسلم منها الزرع والنخل الذي كان الأكثر تضحية، حتى من الجنود أنفسهم «اجتاحني ألم غامض وأنت تذكرّني بآلاف جثث النخل التي اقتلعناها من الجذور، لكي لا يحتمي بها جيش العدو إذا ما قدر له الوصول إليها».
وفي مسلة الوفاء، على الرغم من انتهاء الحرب، فإن البطل لم يزل أسيرًا لفضاءاتها، وهي تتوزع بين السواتر وغرفة الطبابة وأماكن الموت، والسيطرات العسكرية.
وعند الوصول إلى مسلة الأمهات تكون قد اكتملت دائرة الشخصيات، التي كان دائما حديث الموت والحرب والإدانة لها على لسان من اكتوى بنيرانها، الجنود الذين أضاعوا أعمارَهم وراء حرب عبثية، لم ينج منها الحرث والضرع، فقد صورت هذه المسلة التداعيات الخطيرة التي يعيشها البطل، وهو يهمُّ بمغادرة البيت إلى الجبهة، تاركًا جدته التي هي عنده «أصعب من لحظة المرور عبر خندق من نار ورصاص».
أمَّا الشخصيات، فثمة خيط شفيف يجمع هذه الشخصيات كلها، هو أنهم جنود؛ وإن اختلفت رتبهم العسكرية، ففي مسلة قابيل، بطلها الجندي الجريح، والطبيب العسكري، الذي تخلَّى عن الغرور الذي اعتاد عليه بعضُ الأطباء، فقد انسل منهم، وتعامل مع الأمور بواقعيَّةٍ معهودةٍ، وهو ما عبر عنه الجندي الجريح «ما الذي تبغيه يا مقداد ناجي؟ تعد لي القهوة أنا الجندي الجريح وأنت الآمر الناهي». والمسلة هي في الحقيقة مسلة الموت، وما تسميتها بـ(قابيل) الّا لأن الأخير»مؤسس فكرة الموت وصانعها في غياهب الاحتمالات والتخيلات». وأما أبطال مسلة الأصدقاء فهم جنود، يتذاكرون تلك الأيام الموحشة، التي خلت فيها الشوارع من الشباب، سوى بقايا منهم انضموا إلى الجيش الشعبي، وحتى أخو البطل يعمل بحارًا، بمعنى أنه ليس بعيدًا عن أجواء المعركة. فضلًا عن أن أحد الأبطال جريح الحرب، لم ينسَ تلك اللحظات العصيبة التي عاشها وهو يعود بذاكرته إلى تلكم الأجواء المليئة بالموت والدمار»فالشظية التي كسرت عظم ساقي ونامت تحت ركبتي جعلتني أنزف كل شيء إلا السخرية التي خلفتها جملتك ووصيتك».
وأبطال مسلة الحب، أبطال معركة أيضًا، فالسائق الذي لم تستطع المرأة إغواءه، قد أوعز ذلك إلى فعل الحرب به «لقد دوختنا الحرب».. بل إن البطل نفسه لا يتخيل صورة له إلا في أجواء الحرب «هل تتخيلين ميتتنا أو ميتة كل أولئك الذين يعيشون الحرمان على أكياس الرمل أو رطوبة الخنادق عند تخوم المدن أو مفازات الصحراء المهملة».
لقد تشابهت الشخصيات في المسلات الأخرى، مسلة الشجر، ومسلة اللحظات المدببة، ومسلة الوفاء ومسلة الأمهات، إذ لم يتغير شيء في طبيعة الأبطال فهم دائمًا من أبناء السواتر، الذين خبروا الحرب والموت، حتى صار حديثهم عنها حديث العارف عن أدق تفاصيلها، والخبير القادر على الغوص في أعمق أعماقها. فـ(مسلة اللحظات المدببة) بطلها جنديٌّ يحاول أن يتمرد على سنن الموت بطريقته الخاصة التي سمَّاها بـ (مفاتيحي السحرية) وهي حيازته «(ربعين) من عرق هبهب، وثلاث نارنجات قطفها من بستان مهجور». أما مسلة الوفاء فتحكي تداعيات ما بعد الحرب؛ إذ كانت الذاكرة تضغط على أصحابها، لتجعلهم لا يفارقون أجواء الحرب وعتمتها: «هل تجد ثمة حاجة إلى أن أذكرك؟ فالذاكرة أصبحت مثل صفوف من الزجاج المضبب، إفرد إبهامك وامسح به ضباب الزجاجة القصية، هناك ستجدني خلفها في ليل دامس».
ولم يكن الأمر مغايرًا في مسلة الأمهات التي جاءت مسك ختام هذه النصوص السردية التي ترصد تداعيات الحرب على بطل هذه المسلة الذي بقي أسير حبِّ جدته التي كثيرًا ما احتار في الإفلات من حضنها، وهو يهم بالالتحاق إلى الجبهة. ومعاناته وهو يفقد أصدقاء في لحظة مغادرته لجلب (الصمون)؛ إذ سقطت قذيفة على الموضع الذي يشاطرهم فيه الحياة. ثمة ثلاثة عناصر تربط هذه المسلات هي: التشابه في الموضوعات، والأمكنة، والشخصيات، وبقي شيء مهم هو الجو النفسي الواحد الذي تشيعه، فثمة حزن عميق يتخلل هذه النصوص، فضلًا عن أنها تكاد تشكل التجربة الحياتية التي عاشها الكاتب وهو يخوض أجواء الحرب عن كثب؛ بمعنى أن الكاتب أراد أن يؤرخ للحــــرب ليس بطريقة المؤرخ بل بطريــــقة الأديب الذي لا يُعنى بالوثيقة التاريخيَّة بقدر عنايته بالوجه الآخر للحرب الذي لا يعرفه الا مَنْ عاش أدق تفاصيلها وأجواءها.
أعتقد أن هذه العناصر المتقدمة تكفي لأن توصف مسلات البيضاني بأنها متوالية قصصية، لا قصص مكتوبة على طريقة كتابة القصة القصيرة. فعلى الرغم من إمكانية قراءة كل قصة منفردة من غير أن تكون مفتقرة للأخريات، فإن قراءتها كلها ستعطي انطباعا كليا قادرا على تعديل تجربة القراءة، لتصبح كل قصة شذرة من صورة كلية تنبني بعد الانتهاء من القراءة، وهذا أساس بنية المتوالية القصصية.

٭ مسلات البيضاني» متوالية قصصية

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية