ثمة عبارة وردت في مسلسل غريبة أو دخيلة (Outlander)على لسان أستاذ التاريخ ـ إحدى شخصيات المسلسل- بأن الأدب يشوّه أو يزيف التاريخ، وهنا تبدو المعضلة عميقة في قراءتها للعلاقة الإشكالية بين الفنون والتاريخ، فالتاريخ من منظور التاريخانية الجديدة – ربما – لا يقدم صورة حقيقية، أو نقية عن عصر ما، في حين أن النصوص الموازية قد تتمكن من تكوين وجهات نظر أخرى للحدث، أو ربما تأويل جديد، ومن هنا تتضح حقيقة التاريخ في مجال الرؤية، التي تحتكم إليها، أو في موقعها المؤثث بثقافة زمنية مغايرة، ولا سيما حين ننتقل في منظورنا الآني إلى الماضي، كوننا مسكونين بقيمنا وثقافتنا، بالإضافة إلى ما قرأناه عن الماضي في كتب التاريخ.
تتخذ العلاقة القائمة مع الآخر صيغة شديدة الخصوصية في مسلسل «غريبة» وهو من النوع الدّرامي الملحمي الذي بدأ إنتاجه عام 2014 في خمسة أجزاء مقتبسة من سلسلة روايات للمؤلفة ديانا غابالدون» غير أن الثابت في الرؤية الدرامية أن يسمو الحب على الاختلاف العرقي، والذاكرة السياسية، مع تفعيل قيم التسامح، بالإضافة إلى تطويع النفس لتجاوز الألم، الذي يسكن في الوعي والذاكرة.
العودة وبينية الرؤية
خضع المسلسل لثيمة العلاقة العاطفية، التي تختزلها مشاعر حب بين شخصيتين تنتميان إلى فضائين متناقضين، أو لنقل إلى مكونين عرقيين بينهما خلاف سياسي مزمن، هما الفتاة الإنكليزية «كلير» والأسكتلندي «جيمي فريزر» غير أن هذه المفارقة تعدّ أولية إذا ما قورنت بأن كلا الشخصيتين تنتميان إلى زمنين مختلفين، ومع ذلك يتجاوزان الزمن بالحب. «كلير» ممرضة إنكليزية شاركت في الحرب العالمية الثانية متزوجة من أستاذ التاريخ الإنكليزي «فرانك راندل» الذي يصحبها في رحلة ترفيهية عام 1945 لزيارة أسكتلندا، وبالتحديد إحدى المناطق المعروفة بآثارها وتاريخها المتصل بثورات الأسكتلنديين على الإنكليز.
يحاول أن يتتبع «فرانك راندل» مسيرة جده الضابط (جاك راندل) من القرن الثامن عشر، من خلال المؤلفات التاريخية، وزيارة بعض القلاع في المقاطعة الأسكتلندية التي توجد فيها مجموعة من الأحجار التي تسكنها الأساطير، التي تؤدى كل سنة بالقرب منها رقصات ذات طابع أسطوري، يدفع الفضول «كلير» لزيارة تلك الحجارة، والرقص بالقرب منها، غير أنها تنتقل إلى الزمن الماضي، ولا سيما إلى عام 1745 أي قبل مئتي عام، وهكذا تجد نفسها غريبة في الزمن والمكان. من هذه النقطة تتصاعد الأحداث بطابعها المثير، حيث تقابل جد زوجها «جاك فرانك راندل» الذي يكون ضابطا إنكليزياً سيئ السمعة، وهناك تلتقي أيضاً غريمه «جيمي فريزر» الشاب الأسكتلندي الوسيم، وأحد الثوار على الحكم الإنكليزي، وهناك سرعان ما تقع كلير في حب «جيمي» بعد زواج مدبّر بغية إنقاذها من بطش الضابط الإنكليزي «جاك راندل». يتشكل لدى «كلير» وعي متولد من مواجهة تاريخ أبناء شعبها الإنكليزي في قمع ثورات الأسكتلنديين، مع محاولتها تغيير التاريخ بمساعدة زوجها الأسكتلندي، غير أنها لا تتمكن، حيث يبدو التاريخ مساراً حتمياً، ولكن الإحساس فيه يختلف لمن يعرفه مسبقاً.
تتعرف «كلير» على ثقافة الأسكتلنديين، ونظامهم العشائري، بالإضافة إلى نضالهم ضد الحكم الإنكليزي، الذي يجثم على صدورهم، فالحكم الإنكليزي يستهلك اقتصادهم بالضرائب، مع وجوب التسليم بهيمنة التاج البريطاني على وطنهم. تتأسس مقصدية المسلسل على بيان قيمة الاغتراب الذي يطال شخصية «كلير» حيث يمتد لأكثر من مستوى، حيث يراها الأسكتلنديون إنكليزية جاسوسة، وبالنسبة للإنكليز هي خائنة، وفي مستوى آخر تعاني «كلير» من ازدواج مشاعرها بين زوجين: الأول إنكليزي ينتمي إلى عام 1945، والثاني أسكتلندي ينتمي إلى عام 1746. ولعل دلالة خاتمي الزواج في يديها اليمنى واليسرى إحالة إلى تمسكها بعالميها، وصراعها العميق بينهما.
هجرة الهيمنة
تتطور الأحداث حيث تعود «كلير» بعد قضاء 3 سنوات في عام 1745 للمستقبل الذي أتت منه حاملاً بابنة «جيمي فريزر» هرباً، بعد أن يُهزم الأسكتلنديون في معركة حاسمة مع الجيش الإنكليزي تدعى (كولودين) على الرغم من محاولة كلير وزوجها تجنب تحقق هذه المعركة، لعلمها المسبق بهزيمة الأسكتلنديين، وبالتحديد فشل ثورة «اليعاقبة» التي قادها الأمير «جيمس ستيوارت» ولي عهد الملك «جيمس الثاني» الذي استبعد من حكم بريطانيا، نظرا لديانته الكاثوليكية. تعود «كلير» إلى زمنها، وهي لا تعلم ما حصل لزوجها الأسكتلندي، ولكنها تحمل طفلته التي يتقبّلها الزوج الإنكليزي، فيحبها ويرعاها، مع قصة غريبة لا تكاد تُصدق، إلا عندما يطّلع زوجها المؤرخ على الأرشيف الذي يذكر اسم «كلير» قبل مئتي عام.
تكمل «بريانا» حكاية أمها عندما تعود إلى الماضي لتحذير أمها من الموت، وهناك تقابل والدها البيولوجي «جيمي فريزر» الذي انتقل إلى أمريكا، ولعل الحوار بين جيمي يفيض بقلق المشاعر، وازدواجيتها القائمة لدى «بريانا» بين أبوين: كل واحد منهما عدو للآخر.
تمتد حياة الزوجين عشرين عاماً في أرض غريبة، حيث تنتقل العائلة – بعد أن يتلقى «فرانك» عرضا للتدريس في جامعة هارفرد- إلى الولايات المتحدة، يتوفى «فرانك» في حادث سيارة، ثم تصارح «كلير» ابنتها «بريانا» بحقيقة عودتها للزمن الماضي، وبهوية والدها الحقيقي، ومن هنا تبدأ رحلة ثانية نحو الحجارة للعودة إلى الماضي، للبحث عن الزوج والأب «جيمي فريزر» مع التأكيد على توازي الخطين الزمنيين، من حيث تقدم السنوات، وهكذا نواجه سلسلة جديدة من الأحداث، وجميعها تتصل بمساءلة المنطوق والصيغ الاستعمارية، التي تحكم العالم، حيث تذهب «كلير وجيمي» في رحلة إلى جامايكا التي تعدّ نموذجاً استعماريا تابعاً للتاج البريطاني، وهناك تعاين صور الهيمنة، واستثمار أراضي الآخرين، بهدف خدمة المصالح الاستعمارية، ولكن هذا يتعزز برحلة أخرى نحو العالم الجديد، ونعني أمريكا المكتشفة حديثاً، فتكرر صور الظلم الإنكليزي كما كان في أسكتلندا وجامايكا، إذ يتخذ بعدين: أولا محاولة استغلال المستوطنين الأوروبيين، من خلال فرض الضرائب الباهظة، ما يشكل مقدمات أولية للثورة الأمريكية، وطرد الاستعمار الإنكليزي، ومن ناحية أخرى تصوير فضاء الاستلاب لأراضي السكان الأصليين (الهنود الحمر) وهكذا يستمر نقد القيم الاستعمارية، حيث نرى مشاهد تتصل بفضاء الهنود الحمر، والتمثيلات المسبقة، كما تعبيرات تتصل بوحشتيهم، وبدائيتهم- على لسان بعض الشخصيات الإنكليزية- ولكن المسلسل يتبنى وجهة نظر أخرى، بهدف تقديم الهنود الحمر بصورة مفارقة لما شاع في سينما هوليوود، حيث يظهر وجود السكان الأصليين عبر علاقة متناغمة مع الأرض والطبيعة والأساطير، وهذا يفارق التنمطيات المشوّهة في الخطابات الاستعمارية، التي تشكلت بغية تبرير سلب أراضي الآخر، غير أن هذا الاهتمام لم يتجاوز إشارات سريعة، بالتّضافر مع تقديم بضع حلقات من أجل بيان النموذج الذي كان قائماً في العالم الجديد من حيث العبودية، وجلب الأفارقة للعمل في المستوطنات الإنكليزية، كما بيان لا معقــــولية القوانـــين التي تنص على إعدام، أي أسود يتسبب في إراقة نقطة دم من رجل أبيض. في هذا السياق تبدو «كلير» منكرة لهذه القيم، فترفض عرض أقارب زوجها للحصول على مزارع شاسعة، لكونها لا تقبل بنظام الرق والعبودية، الذي كان قائماً في تلك الفترة، وفي مشهد مؤثر – يخاطب رجل أسود «كلير» قبل موته عن طفولته التي حُرم منها في أرض افريقيا، حينما كان يلعب مع أخته الصغيرة في الحقول قبل أن يجلب للعالم الجديد، في مشهد يحاكي ما قرأناه في رواية «فئران ورجال» للروائي الأمريكي جون شتاينبك.
إن مقاربة قيم الهيمنة لا يبدو صيغة عابرة، فهو أقرب إلى فهم يحفر عميقاً لمحاولة اكتناه معضلة الإنسان، من خلال احترام الآخر، ومحاولة بناء قيم العيش المشترك حيث يسعى «جيمي فريزر» – المؤمن بقيم زوجته الرافضة للعنصرية- الاستيطان في إحدى الأراضي الممنوحة من التاج البريطاني أن يقيم نوعاً من التفاهم قوامه احترام حدود أراضي الهنود الحمر، غير أن قيم الإمبراطورية، ومنهجيات الإفناء تبدو نهاية موضوعية للتاريخ الكولونيالي، كما تعرفها «كلير» التي جاءت من المستقبل، فهي تعلم بأن الضرائب التي يفرضها التاج البريطاني سوف تؤدي إلى تشكيل جيش النظاميين، المكوّن من الفلاحين المهاجرين للثورة على التاج البريطاني، وستعلم أن هذه الجهود ستنتهي بتأسيس الولايات المتحدة، واستقلالها، وإبادة معظم السكان الأصليين.
من نماذج الخطابات ذات الطابع التأويلي شيوع مشاهد مغرقة في التّمثيلات الجنسية لقضية الهيمنة، في صورتها القائمة على فعل الإخضاع، وتتبدى تلك الصّورة في محاولة الضابط الإنكليزي «فرانك راندل» في عام 1745 ترويض «جيمس فريزر» لقبول علاقة جنسية أقرب للاغتصاب، حيث يستغل فيها الضابط الإنكليزي كافة الوسائل للضغط على «جيمي» ضمن طقم من الاستيهامات الجنسية ذات الطابع ما بعد الكولونيالي. وفي تكوين مشهدي شديد الخصوصية نرى أن الاشتهاء لجسد المحكوم (الخاضع الأسكتلندي) يبدو نمطاً سائداً في تمثيلات حبكة المسلسل، التي تستند بشكل جوهري إلى بيان معاني الغرور والغطرسة الإنكليزية، ورغبتها في كسر إرادة الشعوب الثائرة عليها عبر متلفظات عنصرية وجنسية، وحضارية، واضحة.
غربة ممتدة
تكمل «بريانا» حكاية أمها عندما تعود إلى الماضي لتحذير أمها من الموت، وهناك تقابل والدها البيولوجي «جيمي فريزر» الذي انتقل إلى أمريكا، ولعل الحوار بين جيمي يفيض بقلق المشاعر، وازدواجيتها القائمة لدى «بريانا» بين أبوين: كل واحد منهما عدو للآخر، ما يشي بمحاولة تمكين القيم الإنسانية، وفضاء الهجنة على مستوى الهوية، كما خلخلة القيم القومية التي كانت مسؤولة عن إراقة الكثير من الدماء. إن الفتاة «بريانا» تعدّ امتداداً لعوالم والدتها الماضية والمهجنة، نتيجة اغتراب دائم بين الإنسان والمكان، فـ«بريانا» ابنه رجل أسكتلندي ينتمي إلى الماضي بيولوجياً، وثقافيا- أي قبل مئتي عام- ولكن والدها (الإنجليزي) الذي قام بتربيتها، وتأثرت به ينتمي إلى الحاضر، وهكذا فهي ابنة تكوين مهجّن يكاد يذكرنا بشخصية الطفل في رواية سلمان رشدي «أطفال منتصف الليل» في حين أن وجود «بريانا» القائم في الماضي يتقاطع مع وجودها في أمريكا التي تعيش فيها مراهقتها وشبابها بدءاً من الأربعينيات الى الستينيات من القرن العشرين، وعندما تعود إلى عام 1768 ترى تلك الأرض الخام والبكر قبل أن تتحول إلى دولة عظمى، فتعاين هويتها القلقة، وأثر الحكم الإنكليزي على العالم الجديد الذي يوصف بأنه جديد، كونه يحمل أملاً وفرصاً جديدة لم تعد متوفرة في الوطن الأم.
لا يمكن أن ننكر بأن المسلسل يقدّم صورة صادقة للثقافة الأسكتلندية، وسائر الإحداثيات الجغرافية التي ينتقل إليها، ولاسيما إنكلترا وفرنسا وجامايكا والولايات المتحدة وثوراتها، وهو مما يعني نوعاً من الرّشاقة في تخفيف حدة الرتابة التي ربما تتخلل بعض هذه الأعمال الطويلة والملحمية، حيث نرى مزجاً بين البحث التاريخي، وتبادل وجهات النظر تجاه التاريخ، مع سلسلة من الحكايات والأساطير التي تسعى لأن تقارب الثقافة المحلية للقطاعات التي يعنى بها المسلسل، ومنها الثقافة الأسكتلندية، وثقافة الهنود الحمر، ومعضلة الافريقي، مع تمكين عميق للنزعة العاطفية التي تبدو خطاباً متفوقاً على سائر نزعات العنصرية والكراهية نتيجة القيم الاستعمارية.
٭ كاتب أردني فلسطيني
ومع ذلك هذا لا ينفي أن رؤيتنا للتاريخ أكثر إحاطة من الرؤية التي سادت أزمانه، لأننا أكثر إحاطة ودراية بظروف تشكل التاريخ الزمنية.