لم تزل الدراما في الدول العربية منصات للهجوم السياسي على خصوم الأنظمة، وبقدر انحيازها للسلطة، تتولى تعزيز رواياتها في مسرح الأحداث السياسية.مسلسل «سره الباتع» الذي عرض في رمضان، للتو انتهيت من مشاهدة حلقاته الثلاثين، وراعني ما ألفيت من كوارث وألغام تتعلق بالهوية، إذ تستبطن مشاهد هذا المسلسل التاريخي، عدة قوادح في الهوية.
أقول ابتداء إن المسلسل معالجة درامية لقصة قصيرة بعنوان «سره الباتع»، للكاتب المصري الراحل يوسف إدريس، وأحداث المسلسل تسير في خطين تاريخيين متوازيين، بين زمن الحملة الفرنسية على مصر 1798-1801، وعهد ثورة يناير المصرية، والأحداث التي تليها، ويتناول قصة من قصص كفاح المصريين ضد الاحتلال الفرنسي، يقابلها في العصر الحديث ما أريد تصويره على أنه ثورة مصرية معاصرة على ما يعرف بحكم الإخوان المسلمين.
المسلسل كانت إسقاطاته واضحة سطحية، وضعت مقاومة المحتل الفرنسي الغاصب، في قيمة معارضة حكم الدكتور محمد مرسي وحزب الإخوان نفسها، وكأن صناديق الاقتراع التي أتت بالرجل لم تكن بتوقيع المصريين، وجسّد المسلسل في الخطين المتوازيين تاريخيا، مشاعر الإحساس بالاضطهاد والظلم والنقمة على المحتل نفسها، وجعل من الشعب بأسره ـ عدا الإخوان- كتلة ضخمة تريد رحيل هذا النظام. لا عجب في ذلك، فمخرج المسلسل هو أحد الوجوه البارزة في ما يعرف بثورة 30 يونيو للإطاحة بالدكتور مرسي وإقصاء الإخوان، وهو ذو توجه علماني ليبرالي شديد السخط على التيار الإسلامي، وكان تركيزه في هذه العمل على الرواية الرسمية للدولة في جميع الأحداث منذ ثورة يناير وحتى الإطاحة بنظام مرسي. ظهر العمل وكأنه يقول: إما أنك مصري، أو من الإخوان، ومن أكثر المشاهد المقززة في المسلسل، التي تبين ازدواجية المعايير عند صانع العمل، مشهد اعتصام معارضي مرسي عند القصر، وتمسّكهم بالسلمية التامة، مقابل الإخوان وأتباعهم من الهمجيين الذين لم يراعوا هذه السلمية ولا إخوتهم في الوطن، وقاموا بفض الاعتصام بتكسير العظام والرؤوس، وفقا للرواية الرسمية أيضا لنظام ما بعد الإخوان. وبعد عدة حلقات، صوّر المسلسل هجوم المعارضين على مقرات الإخوان بالمولوتوف والعصي والأسلحة البيضاء، على أنه قصاص عادل مشروع، فكأن العنف مشروع إذا كان موجها للإخوان. سأدع كل المعارك السياسية التي خاضها المسلسل جانبا، لأتناول بعض الكوارث المتعلقة بالهوية، وأركز في هذا المقام على أمرين:
الدراما أصبحت تمثل خطرا كبيرا على ثقافة الشعوب وهويتها، ويتم تمرير محتواها التدميري في ظل صمت أو مباركة الأنظمة، وصمت رموز الدين والثقافة
*الأول: تكريس ثقافة الخرافات
لم أستطع أن أحصي ما سمعته أذناي في مشاهدتي لحلقات المسلسل من جملة «مدد يا سلطان حامد»، وحامد هو بطل القصة الذي قتله الفرنسيون، وتم تشييد عدة أضرحة له، بعدما فرق المحتلون أشلاءه، فأصبح مزارا للتبرك وطلب المدد.
لقد أظهر صناع العمل السلطان حامد صاحب الضريح، كأنه إله، بيده أن ينجي حياة شخص ويأخذ حياة آخر، يساعد الطلبة في امتحاناتهم إذا طلبوا منه المدد، وأوقدوا له الشموع وأوفوا بنذورهم له. أيعقل أن يتم التكريس لخرافات طلب المعونة من الأموات في هذا العصر وعلى هذا النحو؟ فأين حديث التنويريين عن العقل واقتناعه؟ لكنني أجزم، أن استدعاء الخرافات والعمل عليها، هو المساحة التي يشترك فيها أدعياء التنوير مع القبوريين وأصحاب الخرافات والاعتقاد في نفع الأموات، لمواجهة ما يعرف بالأصولية الإسلامية. رأيتُ كيف حاول صناع العمل، إبراز الثقافة الدينية على أنها ثقافة أضرحة واجتماع حول المقبورين فيها، واتخاذها منطلقات لمقاومة المحتل، وكيف أنها تمثل المحرك الأول للمصريين. تعزيز خرافة الارتباط بالأضرحة والمقامات والاعتقاد في أهلها، أمر تهتم به الولايات المتحدة وتعمل عليه في علاقتها بالعالم الإسلامي، وكم خرجت من أروقة مراكزها البحثية مثل مؤسسة راند ونيكسون وكارنيجي وغيرها، توصيات بدعم هذا التيار، والسبب واضح لا حاجة بنا للاستفاضة فيه، ولذلك يعمل أذناب الغرب في بلادنا على التكريس لمثل هذه الخرافات، فتلك هي النسخة المشوهة من الدين التي يراد تعميمها وصبغ المجتمع بها.
*الأمر الثاني: استخدام مصطلح «تمصير الإسلام» على لسان شخصية ثقافية رفيعة في المسلسل، وتعني أن المصريين أوجدوا نسخة من الدين خاصة بهم، تهيمن عليها ثقافتهم، سواء بعد دخول المسيحية أو بعد دخول الإسلام. إن إيراد مثل هذا المصطلح والإشادة به باعتباره سمة انفرد بها المصريون عن بقية الشعوب على حد قوله، تكرس لجغرفة الإسلام إن صح التعبير، بمعنى إيجاد نسخة من الدين تخضع لثقافة الشعوب في نطاق حدودها الجغرافية كدول، فتكون هناك مصرنة الدين، سعودة الدين، تونسة الدين، وهكذا.. فيغدو الدين مجرد ثقافة دخيلة تحتويها الشعوب وتغمرها في ثقافتها القديمة، لا على أنه هوية لهم، كل منهم يضيف عليه ما يشاء من موروثاته الشعبية، فيصبح الدين أديانا شتى. ومن العجيب أنه أشاد في نسخة الإسلام المُمَصَّر بالشيء الذي اعتبر أنه يمثل هذه النسخة، وهو الموالد بكل ما يحيط بها من طقوس وعادات، واستشهد بتشابه طقوس موالد الشيوخ والقديسين، على أن الثقافة المصرية استوعبت الدين الوافد على حد بيانه. ولا يخفى ما في هذه الدعوة من تماس مع الجهود التي تبذل لإعادة المصريين إلى هويتهم الفرعونية، التي كانت في الأصل هوية وثنية.
الدراما مع سعة وسرعة انتشار أعمالها وتأثيرها في الجماهير، أصبحت تمثل خطرا كبيرا على ثقافة الشعوب وهويتها، ومع الأسف يتم تمرير محتواها التدميري في ظل صمت أو مباركة الأنظمة، وبصمت تام من رموز الدين والثقافة، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
كاتبة أردنية