كلما زرت بغداد أجد فيها تغيرات واضحة قد لا يلحظها من يعيش هناك بشكل دائم، فعين القادم من بعد، وبعد غياب لها القدرة على النظر واكتشاف التغير بشكل أكبر، لكن ماذا يحصل اليوم في بغداد 2024 بعد مرور أكثر من عشرين عاما على ما حدث في نيسان/أبريل 2003؟ هل ابتدأ التغيير يأتي أُكله؟ هل استقرت الأحوال؟ هل تحسنت أحوال العراقيين ماديا وخدميا؟ هل يمكن أن يكون المقبل مبشرا بأمن واستقرار ورخاء حقيقي؟
زيارتي الاخيرة لبغداد تزامنت مع فيض من النشاطات الثقافية، إذ كان هنالك مهرجان المربد في محافظة البصرة، ومع ختامه ابتدأ مهرجان بغداد السينمائي، ومع آخر ايام المهرجان ابتدأ معرض بغداد الدولي للكتاب، ومع هذه النشاطات الكبيرة كان هنالك العديد من الأماسي الثقافية، والندوات الشعرية، وحفلات توقيع الإصدارات الجديدة، والحفلات الموسيقية، باختصار كان شهر شباط/فبراير متميزا هذا العام بجو ربيعي مشمس معتدل الحرارة على غير العادة، فألبس بغداد ثوبا زاهيا يليق باحتضانها كل هذه الفعاليات.
الملاحظ على الشارع العراقي الاسترخاء، وزوال التوتر والقلق المفرط والخوف من المجهول، الكثير من العراقيين باتوا ينظرون إلى نصف القدح المملوء، والبعض يقولها بوضوح؛ إن حكومة السوداني أنجزت وستنجز ما وعدت به كل الحكومات السابقة ولم تحقق منه شيئا.. المشاريع المتلكئة والمهملة وغير المنجزة تم فتح ملفاتها من جديد ليتم إحياء وتنفيذ ما يمكن تنفيذه وبوقت قياسي. التحسن في الوضع المالي للفرد العراقي واضح من مؤشرات السوق، البضائع متوفرة، الماركات العالمية الشهيرة باتت ملمحا في أسواق بغداد، مستوى خدمات البيع، وخدمات ما بعد البيع، أصبح عاليا ومنافسا لدول الجوار، بالإضافة إلى توجه السوق إلى سياسات عقلانية، نتيجة مطالبة المستهلك العراقي ببضائع وخدمات ممتازة توازي ما يدفعه من أسعار عالية. مستويات الترفيه تحسنت بشكل ملحوظ على الرغم من اقتصارها على جوانب محددة مثل انتشار المولات، وانتشار المطاعم والكافيهات بكل مستوياتها، وفي كل مناطق بغداد بدءاً بقصور صدام الرئاسية، التي تحولت إلى مجمعات ترفيهية مثل قصر الأعظمية، الذي أصبح يعرف بمجمع ألف ليلة وليلة، وقرية السندباد، وقرية دجلة، وعيون بغداد، حتى أبسط الكافيهات والمطاعم في الأحياء الشعبية، الكل يحاول أن يقدم لك رفاهية افتقدها العراقي لسنوات طويلة من الحروب والعقوبات الاقتصادية. العين تبصر الآلاف من الوحدات السكنية في مدن جديدة تبنى في بغداد وفي محيطها، مدينة بسماية نموذج جديد للكومباوندات التي لم يعرفها التخطيط الحضري لبغداد سابقا، وربما تسير بغداد على خطى القاهرة، في إقامة ما بات يعرف بـ(المدن الجديدة) التي لها ما لها، وعليها ما عليها، فبغداد العاصمة اليوم تحتضن حوالي عشرة ملايين نسمة، وتحتاج مئات الآلاف من الوحدات السكنية الجديدة، لذلك نشاهد انتشار مجمعات، أو كومباوندات البناء العمودي في مختلف مناطق بغداد مثل بوابة العراق على أرض مطار المثنى، ومجمع الرويال ستي في المنصور، ومجمع البروج السكني على طريق مطار بغداد، مجمع الأيادي في حي العدل، أبراج النخلة في اليرموك، بالإضافة إلى التعاقد مع رجل الأعمال المصري نجيب ساويرس لتنفيذ مدن جديدة هي مدينة الجواهري غرب بغداد، ومدينة علي الوردي في النهروان جنوب بغداد قرب مدينة بسماية، ومدينة الصدر الجديدة التي تعد مشروعا عملاقا لنقل سكان مدينة الثورة إلى مدينة حديثة شرق بغداد. كذلك هنالك وعود حكومية بأن يكون عام 2024 عام الإنجازات، هذا ما نقرأه في العديد من اللوحات الإعلانية في شوارع بغداد، وهنالك عدة مشاريع كبيرة تنفذ لحل مشكلة الاختناقات المرورية، إذ يتم العمل على إنشاء مجسرات جديدة، وصيانة خطوط المرور السريعة، وتوسعة بعض الشوارع الرئيسة في بغداد.
هنالك نظرة تفاؤل واضحة لدى المواطن العراقي يرتسم فيها الأمل بمستقبل أقل مرارة، مما شهده طوال العقود الماضية، وأمنيات بحياة مستقرة وآمنة
من ناحية أخرى نلاحظ انتشار الوعي والتحضر لدى شرائح واسعة من الشباب العراقي، فمن ولدوا بعد 2003 باتوا اليوم في بداية عشريناتهم، يفكرون بعقليات منفتحة نتيجة اتصالهم بعوالم مفتوحة نتيجة ثورة الاتصالات والفضاء العالمي المشترك، ويطلعون على أحدث تيارات الثقافة والسياسة والعلوم ويتأثرون بها بشكل مختلف عن جيل الآباء، المحافظ نسبيا. وقد نسمع الكثير من اللوم والتقريع يوجه لسلوكيات الشباب وطريقة لبسهم أو حديثهم، واتهامهم بأنهم فاسدون لا يصلحون لتحمل المسؤولية، لكن الحقيقة عكس ذلك تماما، وعندما تناقش شابا أو شابة يبهرك منطقه، وقوة حجته، واطلاعه، مع اتسامهم بحيوية مفرطة تدفعهم بعنف نحو تحقيق الذات واكتشاف مجاهيل لم يمر بها آباؤهم.. ولنا في ما حدث من ثورة الشباب في انتفاضة تشرين 2019 خير دليل على عمق ووعي وصلابة الجيل الجديد.
هل يمكن القول إن القراءة أعلاه مفرطة التفاؤل، وأنها ترسم صورة وردية للوضع العراقي بشكل عام والبغدادي بشكل خاص؟ ربما، لكن تعالوا معي ننظر إلى نصف القدح الفارغ لنخرج بقراءة أكثر موضوعية.
القول إن مؤشرات التحسن في الوضع الأمني والاقتصادي تشير إلى تقدم إيجابي واضح، مقولة غير دقيقة، فالاستقرار الأمني ما زال هشا، وإن رعب الانفلات الأمني ما زال يمثل كابوسا عراقيا، نتيجة انفلات وتغول سلاح الميليشيات، وسلاح العشائر، ووجود وتحرك فلول تنظيم الدولة (داعش) الإرهابي، وضعف المؤسسة العسكرية والأمنية رغم عدتها وعديدها، وضعف رئيس الحكومة أمام شركائه السياسيين من حلفاء دول الجوار، والنفور الكردي الواضح من بغداد، والانعزالية السنية التي يشهدها حراك اختيار رئيس البرلمان الجديد، كل ذلك يعني أن الصراع الداخلي قد يتفجر في أي وقت، والنتيجة ستكون انهيار ما وصل إليه الحال من استقرار هش. أما الرفاهية الاقتصادية والبحبوحة التي يعيشها المواطن، ورخاء البضائع والسيارات والمنتجات الحديثة والعقارات التي باتت تعد واحدة من أغلى عقارات العالم، فيؤسفني القول إنها حالة فقاعة اقتصادية بالمعنى الحرفي للكلمة، وهنا يجب أن نتكلم بتفصيل أكثر، فهناك معضلة الاقتصاد أحادي المصدر، إذ يعتمد الاقتصاد العراقي بشكل كامل على ريع ما يبيعه من نفط مستخرج، وبالتالي فإن أية هزة في أسعار النفط العالمية ستتسبب في كارثة اقتصادية عراقية. كما أن الضغوط الأمريكية على العراق كناتج عرضي للصراع الأمريكي الإيراني، مع حزم العقوبات التي تفرضها الخزانة الأمريكية على أشخاص وكيانات اقتصادية، تسببت بما يعانيه السوق العراقي من فجوة كبيرة في سعر صرف الدولار، بين السعر الرسمي وسعر السوق الموازي، الأمر الذي تسبب في خلل واضح في السوق.
ومن ناحية أخرى هنالك غياب تخطيط التعليم في العراق، إذ لا تعتمد مخرجات مؤسسات التعليم من جامعات ومعاهد، على حاجة سوق العمل الفعلية، فنجدها تضخ مئات الآلاف من خريجي اختصاصات جامعية، لا تجد فرص عمل حقيقة في القطاع العام المتخم بالعمالة الزائدة، أو القطاع الخاص شبه الميت، وهذا الأمر بحد ذاته يمثل قنبلة موقوتة قد تنفجر في حركة احتجاج شبابية مقبلة، مع ملاحظة حال التعليم الحكومي الذي يتحول يوما بعد آخر إلى هامش، أمام تغول التعليم الخاص وفيضان الثانويات والكليات الأهلية. أما على مستوى الخدمات، فالحديث يقف أولا عند مشكلة الكهرباء التي باتت معضلة أزلية في العراق، وعلى الرغم من المليارات التي صرفت، والفرص التي أهدرت، ومحاولات إيجاد حلول ترقيعية عبر الاعتماد على دول الجوار، إلا أن العراق وبعد عشرين سنة لم يخرج بشكل حقيقي من أزمة الكهرباء التي تحيل صيف العراق إلى جحيم، وشتاءه إلى زمهرير، بالإضافة إلى خدمات الصحة المتراجعة، ولجوء أعداد كبيرة من العراقيين إلى مستشفيات الخارج في لبنان وايران وتركيا والهند، لإجراء العمليات نتيجة التخوف من فشل المستشفيات الحكومية في إجراء ما يلزم، لكن وللأمانة يجب أن أختتم بالقول إن هنالك نظرة تفاؤل واضحة لدى المواطن العراقي يرتسم فيها الأمل بمستقبل أقل مرارة، مما شهده طوال العقود الماضية، وأمنيات بحياة مستقرة وآمنة.
كاتب عراقي