مشروع بورقيبة النسوي استند الى اجتهادات الفرق الاسلامية ومنها الدروز

حجم الخط
2

خلافا لمزاعم الإسلاميين المتواترة، فإن إشكالية تحرير المرأة في العالم العربي الإسلامي لم تكن وليدة الصراع مع الغرب المتفجّر ابتداء من القرن التاسع عشر الميلادي، ولم تأت نتاج إرادة زعماء مستلبين مرتبطين بالثقافة الغربية مثلما جرى تصوير مشروع الحبيب بورقيبة في ادبيات الاسلام السياسي، أو خضوعا لإرادات استعمارية خارجية على غرار التصريح العائد لوزير التعليم العالي التونسي النهضوي المنصف بن سالم الّذي ردد فيه رواية تنسب مجلّة الأحوال الشخصية التونسية إلى ضغوط الوزير الأوّل الفرنسي يهودي الأصل منداس فرانس الذي وقّع اتفاقية الاستقلال لتونس سنة 1956.
وما أملك الصدع به، بكل مباشرة وبساطة، أنّه ليس ثمّة موضوع شغل الإسلام منذ الحقبة النبوية إلى اليوم وأرّق مناضليه ومفكّريه وفقهائه وحكّامه وسياسييه مثل هذا الموضوع، وقد تنازعه منذ وصيّة الرسول محمد (ص) بالنّساء خيرا باعتبارهنّ شقائق الرجال، خطّان أساسيان، حال قضايا رئيسية كثيرة انقسم حولها المسلمون، خطّ آمن بوجوب مواصلة التأويل أخذا بروح التحرير التي مارسها النبيّ في تحدّ واضح لتقاليد وعادات مجتمعه العربي الجاهلي، وخطّ اعتقد في تجميد حقوق النساء عندما ما أقرّ في الزمن النبوي باعتبار أن ذلك أقصى ما يمكن أن تمتّع المرأة به، ونظر إلى المنظومة على أنها ثابت متوقّف لا متحوّل واجب التطوير.
ولنسهّل الفهم، فإن قضية تعدّد الزوجات على سبيل المثال، لم تكن قضية حديثة أومعاصرة في الفكر الإسلامي، ولم يكن الحبيب بورقيبة مخترعا لموقف ‘المنع’ فيها على أهمّية سبقه في هذا السياق، فقد كان برأيي حلقة من سلسلة ‘المسلمين التقدّميين’ الذين عرفهم كل زمن إسلامي تقريبا، إذ نجد إرهاصات لهذا الموقف في ‘الصداق القيراوني’ التونسي الّذي منح المرأة حق اشتراط أن لا يتزوّج عليها وأن تحلّ عقد زواجها إن أخلّ به في هذه المسألة.
وكنّت قدّرت انطلاقا من قراءتي في كتاب الصداقة التي ربطت الحبيب بورقيبة بأمير البيان العربي شكيب أرسلان، أن رائد الاستقلال التونسي قد استقى كثيرا من أفكاره الإسلامية التقدّمية، ومن أهمّها فكرة تحرير المرأة، من تجارب تيّارات وطوائف إسلامية عريقة كالطوائف الفاطمية الإسماعيلية والطائفة الدرزية التي ينتمي إليها أرسلان، دون أن يخلّ ذلك بالأطروحة التقليدية التي اعتنقها المتنوّرون التونسيون والتي جعلت من المشروع البورقيبي تجسيدا مخلصا للأفكار التي طوّرها على امتداد قرن ونيف مصلحون تونسيون أفذاذ مثل بيرم الخامس وسالم بوحاجب وخير الدّين باشا والطاهر بن عاشور والطاهر الحدّاد.
وتمكّن إطلالة بسيطة على الفكر الإسلامي الدرزي مثلا، لنعرف أن هذه الطائفة التي تنسب جذورها إلى فلسفة الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله، وتعرف بأسماء متعدّدة من بينها ‘طائفة الموحّدين المسلمين’ و’بني معروف’، قد منعت على أبنائها على امتداد القرون العشرة الماضية و لا تزال تعدّد الزوجات، وأمرتهم بالاكتفاء بزوجة واحدة، بناء على الاجتهاد نفسه الذي اعتمده الشيخ ابن عاشور واتخذه بورقيبة قاعدة للتشريع، والذي يرى أن آية ‘ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النّساء ولو حرصتم’ قد نسخت آية ‘وَإِنْ خِفْتُمْ أَلّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ’، دون مقطعها الدّال صاحب الحجّة الربّانية ‘فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً..’ .
وقد شكّل موضوع ‘الولاية الكبرى للمرأة مجالا إشكاليا آخر في التاريخ الإسلامي، فاصلا بين الخطّين السالفين دائما، خطّ ‘أقلّي’ لم يرى حرجا في تولّي النساء المنصب الأعلى في الدولة، كما كان حال ‘أروى الصليحيّة’ أو ‘السيدة الحرّة’ (1048-1138) التي حكمت الدولة الصليحيّة في اليمن ما يقارب نصف قرن، وكانت دولة تابعة للخلافة الفاطمية ذات عقيدة اسماعيلية مستعليّة، وجمعت بين السلطتين الزمنية والروحية بتفويض مباشر من الخليفة الفاطمي في القاهرة، ثم بتفويض من العلماء والرعيّة بعد انهيار الحكم الفاطمي، وقد اشتهر عهدها بازدهار حضاري وتقدّم علمي وعمراني وتطبيق صارم لقواعد العدل.
وتعدّ تونس الحاضرة لمؤهلات كثيرة تملكها، أرض فصل جديدة متجدّدة للمقالين المتصارعين في تاريخ الإسلام، ولعل أهمّ مقوّم للثقة بأنها ستكون مجالا لنصرة الرؤية التقدّمية، تلك الأمارات والإشارات التي أرسلتها المرأة التونسية المسلمة، التي لم تعد مجرّد موضوع للإصلاح فحسب، بل تحوّلت بفعل حركة الإصلاح العريقة إلى فاعل محدّد مساهم على قدم المساواة في تحقيق هذه المساواة التي انطوى عليها النص والشرع وعمل فقهاء متجمّدون ومتأسلمون على طمس معالمها المحقّة.
ولا يرى إلا أنّ حرائر بورقيبة ‘التونسيات المسلمات’ إنّما يعلين اليوم بحضورهّن العظيم في صفوف المعارضة الوطنية التقدّمية، وفي الثورة التونسية بشوطيها السابق والراهن، وفي ما قبلها من مراحل النضال المدني والديمقراطي، جدار صدّ يمنع كل ردّة إلى عصر ‘حريم الشيوخ’ و’جواري السلاطين’، ويبلّغن رسالة الله الحقيقية العادلة، كما بلّغها محمد بن عبد الله عليه وعلى آله الصّلاة والسلام، حيث النّاس متساوين كأسنان المشط نساء ورجالا إلى يوم الدّين، وحيث فاطمة (ع) أمّ أبيها من أرضاها فقد أرضاه ومن أغضبها فقد أغضبه، وحيث المرأة التي ولاّها إبن الخطّاب (رض) الوزارة منذ قرون.
د.خالد شوكات – تونس

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول د. علي العنزي:

    ما احوجنا الان الى تعدد الزوجات من اي وقت اخر . قل لي في ظل هذه النسية العالية من العنوسة ما هو الحل؟ اهو في العلاقات الغير شرعية التي تظلم الرجل والمرأة.

  2. يقول Hassan:

    بورقيبة في زمنه المساجد والجوامع لا تغلق. زمن بورقيبة رغم إغلاقه جامع الزيتونة بقيت الكتاتيب وحفظ القرآن. زمن بورقيبة أسس للتعليم الحديث فانتشرت المدارس والمعاهد رغم الفقر آنذاك وشمر الشباب عن ساعد الكد وما يدر به الذهن
    فاستفاد الداخل والخارج. زمن بورقيبة كان التعليم المهني والتقني له حظه بل فيما يذكر أنه أتى بمستشاريين فرنسيين لذلك فاستفاد العالم بمن أنعم الله عليهم بالعلم.
    ” إن أنت أعددتت أما أعددت …” فكان تعليم المرأة وصقل ذهنها رغم مؤاخذة البعض على ذلك. وقد قال فيما قال أن أعد شبا متعلما مثقفا حتى إذا ما ثار تكون ثورته خصارية وقد حصل ذلك. زمن بورقيبة لو وجد مثله في معظم البلاد العربية لما كان حال العرب وأبرز ما أبدى به خطاب أريحة الذي لم تتستوعبه نخب ذاك الزمان وها هم اليوم يترجون أن يحصلوا على ما كان بإمكانهم الحصول عليه بسهولة ويسر.

إشترك في قائمتنا البريدية