يروي فرانز فانون، في كتابه «معذبو الأرض» قصة مسؤول فرنسي أدت مشاركته في قمع الجزائريين وتعذيب ضحاياه، خلال فترة الاحتلال الفرنسي للجزائر، إلى حالة نفسية نقلت رغبته في الاضطهاد والقمع والتعذيب إلى عائلته، فصار يضرب زوجته وأطفاله بشكل وحشي. توفّر هذه القصة، في رأيي، استنتاجي الخاص الذي يلخّص كتاب الأكاديمي اللبناني فواز جرجس، الصادر حديثا، «ما الذي حصل خطأ: الغرب وفشل الديمقراطية في الشرق الأوسط» (ييل يونيفرستي برس).
أي أن جهد الغرب الهائل الذي وظفه لتدمير إمكانيات الديمقراطية في الشرق الأوسط أدى إلى كارثة واسعة في المنطقة، ثم عاد ليتلبّس الغرب، بطرق كاشفة نراها حاليا في صعود دونالد ترامب مجددا، والنجاحات التي يحققها اليمين المتطرّف الأقرب للفاشية في أوروبا.
يركز الكتاب على شخصيتين فاعلتين ومؤثرتين، الأولى هي محمد مصدق والثانية هي جمال عبد الناصر.
ولد مصدّق عام 1882، وهو ابن وزير مالية، وحفيد من جهة والدته لسلالة القاجار التي حكمت إيران منذ عام 1789. وقد عانى أسلافه القاجار قبل ولادته من تدخل أجنبي واضطرابات داخلية، فألغى الملك نصر الدين شاه قاجار، أحد هؤلاء، اتفاقا مع رجل الأعمال البريطاني جوليوس دي رويتر (مؤسس الوكالة الشهيرة للأنباء) كان سيمنح الأجانب السيطرة على مقدّرات البلاد الاقتصادية. درس مصدق القانون في سويسرا، حيث قدم أطروحة «تضمنت ارتباطا عميقا بالشريعة الإسلامية». طالب مصدق بضرورة تحديث الفقه الإسلامي، لمواكبة التقدم الاجتماعي، وكان ديمقراطيا علمانيا يدعو للفصل بين المسجد والدولة، وتطور من رجل دولة بيروقراطي إلى رجل دولة ثوري معارض لحكم الفرد المطلق. شكّل بعد إطلاقه من السجن عام 1949 تحالفا بين العلمانيين ورجال الدين المحدثين (الذين كان يقودهم آية الله كاشاني) فنجح في حصد أكبر تمثيل في البرلمان، كما كان وطنيا متشددا ضد الاستعمار، ومدافعا عن تأميم النفط، وبعد رئاسته الحكومة عام 1951 جعل من ذلك هدفا استراتيجيا لتعزيز نضال إيران من أجل السيادة الاقتصادية والاستقلال. أصبح مصدق في قلب المشهد المضطرب لصراع بلاده مع القوى الأجنبية، ورمزا كبيرا للفصل التاريخي الأول من «الصحوة الفارسية» (التي كانت الثورات الشعبية والدستورية والديمقراطية عناصرها الرئيسية) وقد انتهى كل هذا مع انقلاب دبرته المخابرات الأمريكية والبريطانية ضد حكومته عام 1953.
سوريا: أول الانقلابات الغربية على الديمقراطية
حصل ذلك أيضا في المنطقة العربية، حيث لم تتناسب عناصر الحرية والديمقراطية فيها، كما يرى الكاتب، مع خطط بريطانيا وفرنسا فتم سحق تجربة الديمقراطية العربية الأولى، التي مثلها المؤتمر الوطني السوري، الذي أقر دستورا ديمقراطيا ليبراليا يكرس حقوق الجميع، كما سيبدأ فيها، وبشكل مبكر، سيناريو الانقلابات المرعية أمريكيا ضد نظم ما بعد الاستقلال، والذي جرت أول تطبيقاته في سوريا عام 1949، حيث تم تخريب التجربة الديمقراطية الواعدة.
يسعى جرجس في تحليله الحارّ للتاريخ والوقائع إلى كشف «الفرص المهدورة» والإمكانيات التي تم تعطيلها، بما يسمح بهدم «السرديات الزائفة» ويقدم تصويبا للتصوير الثنائي الذي يتجاهل الاختلاف والتنوع في الشرق الأوسط، وينكر قرونا من التعايش والتسامح، رافضا الروايات الغربية التي «تنتقي من التاريخ» وتنكر مساهمات المنطقة الهائلة في الحضارة الجماعية للبشرية.
يخلص الكتاب إلى أنه إذا اردنا وقف المسار المدمر للخراب الذي لحق بمجتمعاتنا فعلينا أن نبين أنه ظاهرة حديثة «حرّضت عليها وغذّتها القوى العظمى وعملاؤها المحليون المستدون» و«يجب ان نفهم كيف وصلنا إلى هنا».
لا يمكن، حسب الكتاب، فهم تاريخ الشرق الأوسط، دون تحليل حدثين مهمين حصلا في إيران ومصر ولعبت فيهما أمريكا، التي مثلت الإمبريالية الجديدة المستترة، دورا حاسما، فأدت تدخلاتها، إلى نتائج عكسية قوضت الأمن على الصعيد العالمي وعرقلت الحكم الرشيد في الشرق الأوسط وخارجه. تؤثر المعادلة، كما يتضح في الكتاب، في الجهتين، فقد أدى سحق الديمقراطيات في بلدان المنطقة إلى قيادتها نحو الاستبداد والعسكرة والتطييف السني والشيعي، فيما أدت داخل الولايات المتحدة إلى تفاقم نفوذ المجمع العسكري الصناعي وزيادة هائلة في حجم الديون، والاستقطاب الداخلي العنيف.
يصف جرجس بشكل موسع، هذه اللحظة الملحمية الممتدة، بدءا من عملية «إنقاذ إيران من الديمقراطية» إلى هجوم بريطانيا وفرنسا وإسرائيل على مصر عام 1956 (الذي حرّكه أيضا قرار تأميم قناة السويس) ثم محاولات تركيع المنطقة التي وصلت ذروتها في حرب 1967، وسنرى عواقب هذه التراجيديا الطويلة الأمد العاصفة، تنفجر لاحقا مع الثورة الإسلامية عام 1979، ومع وفاة عبد الناصر والتراجع الهائل بعدها في وزن مصر وأثرها في العالم، ودور توطد الاستبداد فيها في نشوء القوى الجهادية السلفية.
من انقلاب مصدّق إلى «الحرب على الإرهاب»
ترتكز أطروحة الكتاب إذن على أن إطاحة المخابرات الأمريكية بمحمد مصدق في 1953، ومحاولة إدارة أيزنهاور الأمريكية تقليص حجم عبد الناصر، حدثان أطلقا سلسلة ردود فعل وردود فعل مضادة غيرت وجه الشرق الأوسط بشكل كبير. يؤكد الكتاب عدم رسم روابط سببية بين ما حدث في إيران ومصر بشكل مباشر، وينكر القول إن تدخلات الغرب وحدها أدت إلى كل الخراب اللاحق، وعليه فهو يحاول تقديم شرح تاريخ معقد يوضح كيف شغّلت أول غزوة أمريكية في المنطقة خلال الانقلاب الإيراني، وعمليات الانقلاب على عبد الناصر، بالترافق مع الحرب الباردة، حراك ديناميات كبرى كان من ذراها هجمات أيلول/سبتمبر 2001 و»الحرب على الإرهاب» واحتلال أفغانستان والعراق، ما أدى لمقتل ما لا يقل عن 4,6 مليون شخص ونزوح 38 مليونا وإنفاق أمريكا أكثر من 8 تريليونات دولار في سلسلة أحداث جهنمية أضرت بدول المنطقة وبالديمقراطية الأمريكية وبالعالم.
كانت تجربة مصدق، بكل المقاييس الموضوعية، مفتاح آفاق تأسيس الديمقراطية الواعدة في إيران، وبدلا من دعمها ومساعدتها على الازدهار، دبّرت المخابرات الأمريكية انقلابا أطاح بها، موجهة بذلك «ضربة قوية لبوصلة أمريكا الأخلاقية وروحها الديمقراطية». ترددت أصداء ذلك في الشرق الأوسط، ووصلت أمواجها إلى أمريكا نفسها، التي «اختطفها المجمع الصناعي العسكري» وفي الأمم المتحدة التي تم تقويض مجلس أمنها وشرعيته، وكانت ثورة 1979 التي أطاحت بحكم الشاه المستبد إحدى النتائج البعيدة لكل ذلك، ويرى كثيرون أنه لولا حدث الانقلاب على مصدق لما كان لآية الله الخميني أن يذهب إلى المنفى في العراق في الستينيات وأن يكتسب نجومية وطنية ودولية ساهمت في قيادته للثورة الإسلامية.
نظام الدولة العربية: توازن مفقود
لم يكن لدى عبد الناصر تحيز أيديولوجي ضد أمريكا، وكان معجبا بثقافتها وحاول خلق علاقات جيدة معها، فماذا كان سيحدث لو حاولت أمريكا تطوير العلاقات مع عبد الناصر، ولو تغير مسار التاريخ بين البلدين. يتخيل جرجس مستقبل مصر، متسائلا كم كان العالم سيستفيد من مصر مزدهرة ومسالمة؟
إحدى النقاط التي قد يكون السجال فيها مع الكتاب مفيدا، تتعلّق بحدود أدوار الأفراد، كما هو حاصل في شرح الاختلافات البينة بين شخصيات ومساقات مصدق وعبد الناصر، وكذلك أدوار الدول والمؤسسات، مثل الولايات المتحدة، التي أملت بعض بافتراقها عن إرث الاستعمار البريطاني – الفرنسي. تفسّر الحرب الباردة الناشبة بين الاتحاد السوفييتي والغرب بعد الحرب العالمية أسباب الانغماس الأمريكي المتزايد في وراثة الدور الاستعماري والامبراطوري، كما تفسّر تغليب أولويات الحرب والأمن وصعود الصراع مع شخصيات مع مصدق وعبد الناصر وغيرهما.
يعالج جرجس هنا قضية أن عبد الناصر لم يكن ديمقراطيا مثل مصدق، قائلا إن ديمقراطيات عديدة بدأت بعد الاستقلال بأشكال من الحكم الديكتاتوري، ما يعني أن مسار أحداث مختلف كان سيغير مصير مصر والمنطقة. لقد تغيرت المنطقة فعلا لكن على وقع المواجهة الغربية مع عبد الناصر، وعلى عكس إيران، لم يستعد نظام الدولة العربية توازنه.
لا يصدر الكتاب عن رغبة في إعادة تصوّر لتاريخ مفترض، ولا يتعلق فقط بمحاولة إقناع الغرب بأن سياساته كانت في قلب الكارثة الهائلة التي تكبدها الشرق الأوسط، وارتداد ذلك على الغرب نفسه، بل يرتبط أيضا بالرغبة في الخروج من مأزق عالمي، ومن الحاجة إلى خفض تكلفة المخاطر والموارد وإمكان وقف هدر مصائر الشعوب.
خلق توازن جديد، كما تؤدي إليه رؤية الكتاب، يمكن أن ينقذ العالم، ويحقق بعض العدالة والحرية في منطقة الشرق الأوسط فحسب، التي صارت الجغرافيا الأكثر اختراقا وتعرضا للتدخلات في التاريخ الحديث، والتي «خسرها الغرب» لأنه لم يسمح لها برسم تطورها الخاص بعد انتهاء الاستعمار. يقول الكاتب: «ترتفع المخاطر فوق أي تمرين فكري» وإذا حفرنا عميقا كفاية سندرك أن قلب الشرق الأوسط «ليس محكوما بالفشل».
كاتب من أسرة «القدس العربي»