د. يحيى مصطفى كامل على وفرة الأوصاف في لغتنا وكثرة الخيارات المطروحة أمامنا في الحياة بصفةٍ عامة وفي الظرف الراهن بصفةٍ خاصة فإنني لا أجد غير كلمة ‘العبث’ أصف بها المشهد السياسي الراهن في مصر…إذ هل توجد كلمةٌ أخرى توجز حرب الشوارع المدهشة والمفزعة في آنٍ معاً بين جماعة الإخوان الحاكمة وذراعها السياسية الحزبية من ناحية ومعارضيهم من كل الأطياف والتي تستنزف كلا الطرفين وتحصد الأرواح؟ ..و بم تستطيع أن تعلق على حالة التدمير الذاتي التي ينتهجها الرئيس وجماعته في السلطة؟ وبمَ تصف حالة الإفلاس المدهشة لدى من شكلوا أكبر وأقدم فصيلٍ سياسي منظم في عهد مبارك؟! أليس عبثاً إفلاسُهم من الرؤية وفشلهم في شتى المناحي وعلى رأسها الفشل الأمني؟ وإذا لم يكن عبثاً مناوراتهم التي تتسم بانعدام الجدوى مع مناوئيهم وخصومهم السياسيين من الفصائل الأخرى (بما فيها الرديف السلفي الأقرب منهم بحكم التكوين الفكري والمرجعي) وإصرارهم على عدم إعطاء أية تنازلات مع الظهور بعكس ذلك فماذا يكون؟!.كل ما سبق وغيره من الأمثلة مما لا يتسع له كتاب ناهيك عن مقالٍ متواضـــع محدود بعدد الكلمات لهي أدلةٌ على العبث والفشـــل وانسداد الأفـــق، غير أن ما هو أخطـــر مــــن ذلك في رأيي هو عبثية الاستمرار في الحديث عن أهمية محـــــاولة إيجاد حلولٍ وسط للاستعصاء والاستقطاب المهيمـــن الذي يقتـــسم الشارع السياسي…كما أن حدساً أو لنقل يقيــــناً لدي شكلته أحداث وتطورات العامين الماضيين ينبئني بأن مصير ذلك الصراع بين الجماعة ورا فضي حكمها وبالتــــالي مآل تلك الحلقة أو الموجة من الحراك الثوري المصري ستكون شديدة العبثية.بدايةً، لا بد من التأكيد على أن الطرفين يقفان في حارةٍ سد، وأن الحوار بينهما أو حتى تصور إمكانيته إذا لم يكن مستحيلاً فهو ليس بعيداً عن ذلك بكثير، ولعل من أخطر الأمور التي لا يفهمها د مرسي (وما أكثرها..) أن العنف وحده غير كافٍ لاستقرار أي نظام وأن الشعب المصري الذي صبر على مبارك لم يفعل ذلك تحت تأثير العنف وحده وإنما نتيجة مجموعة من العوامل المتباينة مثل منظومة فكرية مهيمنة على المجتمع خلطت بين ما هو ديني وما هو موروث فأبرزت وركزت على معاني الإذعان والرضا بالحال والنصيب والامتثال للقدر أو ما يعد قدراً لا راد له، بالإضافة إلى أسلوب حكمٍ اعتمد على تجميد الصراع الاجتماعي وتفادي الصدام ما أمكنه ذلك، ولا يفوتنا أن نلتفت إلى أهمية خلفية مبارك العسكرية ومشاركته في منصبٍ قيادي أثناء حرب أكتوبر الأنجح من بين جولات الصراع العربي الإسرائيلي والمصري على وجه الخصوص ومن ثم تدرجه في هيكل مناصب الدولة حتى بلغ منصب نائب رئيس عشية اغتيال السادات، بل ووجــــوده إلى جانبه على المنصة لحظة الاغتيال، وهي الأمور التي جعلت قبوله من القوات المسلحة وسائر أدوات السلطة والدولة العميقة أمراً تلقائياً فضلاً عن ‘تسويقه’ محلياً للشعب وإقليمياً…والحال أن كل تلك العوامل تضافرت في معادلةٍ أو تركيبةٍ فريدةٍ سمحت لمبارك بالاستمرار ومنحت حكمه، على عواره وقبحه وظلمه وانعدام كفائته وتبعيته وما شئت أن تضيف، مشروعيةً ما. وليست الحال كذلك مع الإخوان، فتلك المعادلة قد كسرت وتوازنات القوى القديمة تناثرت مع نزول الجماهير إلى الشارع، فلا الشعب الآن هو ذاته الذي صبر على مبارك قبولاً وجهلاً بكم السرقات والتخريب ولا الجماعة الحاكمة الآن تمتلك تلك الخلفية من مسوغات القبول التي تمتع بها مبارك، وهنا تكمن المشكلة، فطرفا الصراع، أي الجماعة ومعارضيهم، لا يملك أي منهما في الوضع الراهن ما يكفي من القوة لحسم الصراع بإسكات الآخر وإزاحته من الساحة، وعلى ذلك فهما يتبادلان اللكمات المدمية المرهقة دون بارقة نهاية في الأفق.و لو أن الأمر توقف عند هذا الحد لكان بالإمكان الحديث بصفاءٍ ذهني وهدوء أعصابٍ نسبي عن المبادرات والحوار والموائد المستديرة والمستطيلة وما أشبه من صيغ ‘جبر الخواطر’ الفضفاضة التي لم تعد تعني شيئاً بكل صراحة، غير أن الواقع الدامي والكئيب والمحبط يطالعنا كل يوم بتطوراتٍ شديدة الإزعاج، بل ومرعبة، إذ نرى يومياً أن ذلك الصراع المحتدم بين الطرفين لم يضعف الدولة فقط، تلك التي لم تتعافَ أو تنجح في ترميم حطامها بعد إعصار الحراك الثوري، وإنما أسقط هيبتها في عيون الجمهور حيث نرى أمثلةً عديدة على اجتراء الجمهور على مؤسساتها واقتطاعهم من اختصاصاتها مثل تطبيق حد الحرابة على بعض اللصوص في أماكن متفرقة…باختصار نحن أمام دولة تتفكك وتتآكل ومجتمع يتمزق ويتحلل إلى مكوناته الاساسية وفق العصبيات والانتماءات الطائفية والمذهبية والسياسية والمناطقية بينما ينشغل د مرسي وجماعته في معركة ‘التمكين’. أنا على قناعة بأن ما هو قادم أو الحدث الحقيقي والتربيطات السياسية الحقيقية تحدث في الكواليس، أبطالها أطرافٌ عديدة محلية وإقليمية وعالمية، ولا تحتاج إلى ذكاء لتذكر على رأسها القوات المسلحة والأجهزة الامنية وأمريكا وإسرائيل وأطراف خليجية تلعب في الخفاء، وأن مصر على ذلك تعيش مرحلة ‘حدوث’ أو ‘تخلق الحدث’ بعيداً عن الأعين…كما أن تلك الأطراف تراقب الموقف المشتعل لتقرر كيف ستتحرك وإلى جانب من ستقف لتحسم ذلك الصراع، إن لم يكن للتخلص منهما معاً، بعد أن يكون الشارع قد فاض به من وقف الأحوال والتردي الاقتصادي والانحلال الأمني، فمصر من الحجم والمكانة والدور المحوري في استقرار المنطقة والعالم بحيث لا يمكن أن تترك لتسقط… الأكيد أن هذا الوضع لن يستمر طويلاً.’ كاتب مصري زميل الكلية الملكية لأطباء التخدير في بريطانيا qmdqpt