مصر: العالم يتغيّر!

حجم الخط
32

عكست الطبيعة الجغرافية المصرية نفسها دائماً على شكل الأنظمة فيها، فعلى عكس العراق كانت الأرض المصرية سهلة الزراعة وكانت فيضانات النيل متوقعة ولم تكن تأتي ككوارث مفاجئة كما كان حال نهري دجلة والفرات، مما جعل أطول الأنهار في العالم ساعة عظيمة تنظّم حياة المصريين.
ومنذ عام 2884 قبل الميلاد إثر غزو ملك من جنوب مصر لشمالها ظلت مصر مدة ألفي عام تقريباً تحت حكم واحد ونظام ديني واحد ونمط واحد من الحكم والاجتماع الإنساني دون تأثير هام من الخارج، وكان الحكام فيها يتمتعون بسلطة عجيبة بسبب قدرتهم على ضمان الازدهار من خلال إنجاح الزراعة، وكان الناس يعتقدون ان الملوك يتحكمون بالحياة من خلال تحكمهم بارتفاع النيل وانخفاضه.
كانت العدالة، هي «ما يحبه فرعون»، والشرّ هو ما يكرهه، وكان الملوك يصورون بهيئة مقاتلين أبطال عظام.
هذا التاريخ المديد للاستقرار وعدم التغيّر لا يشبهه تاريخ آخر في العالم (باستثناء الصين) مما يجعل الاستمرارية أقوى بكثير من التغيير، فحتى الإسلام، الدين الذي غيّر عقيدة المصريين، فقد انطبع بطابع تاريخهم العميق وجعله إسلاماً مصرياً خاصاً، وهذان العاملان: التاريخ المديد وتطبيع التغيّرات بطابع مصر الخاص، لا يمكن إلا أن ينعكسا على تاريخها الحديث ويقدّم استبصاراً يفسّر أشياء يصعب تفسيرها ما لم تدخل تلك العوامل العميقة في التحليل.
وبهذا المعطى التاريخي القارّ يمكن فهم النزعة الدينية العميقة التي لم تتغير في الشعب المصري على مدار العصور، لكنّه أيضاً يفسر تمسّك هذا الشعب بتديّنه الخاص الذي لا يتقاطع بالضرورة مع «الإسلام السياسي»، باعتباره، رغم مرور عشرات السنين على نشوئه، شكلا «جديداً» نسبياً بطقوس تحاول تجديد ما استقرّ في وجدان المصريين عبر مئات السنين.
والأمر نفسه يفسّر كيف استدارت دائرة الاستقرار التاريخي والتهمت إمكانات التغيير الذي حصل بعد ثورة 25 يناير فعادت الأمور إلى ما كانت عليه، كما يفسّر الطبيعة الأيقونية الكبرى للحاكم المصري، وهو ما رأيناه في صورة جمال عبد الناصر ثم ما نراه الآن في التعظيم الشعبي للرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي الذي ذكرت مراسم تنصيبه بذلك الإرث الهائل العتيق.
غير أن تلك العلاقة الوطيدة بين الماضي والحاضر المصريين تعمل باتجاهين، الأول هو تأكيد ثوابت فاعلة في الشخصية المصرية، والثاني هو تآكل هذه الثوابت تحت وطأة واقع جديد معقد، عوامل صارت شديدة الاختلاف عن الماضي.
سمحت ظروف العالم في خمسينيات القرن الماضي لجمال عبد الناصر بممارسة دور عالمي وعربي مما جعله أكثر ما يكون قرباً من صورة ملوك مصر القدماء في الشعور الجمعي المصري، أما أنور السادات، فرغم عصا الماريشالية المهيبة وزركشات البدلة العسكرية فكان بداية تدهور صورة ذلك الملك القديم أمام الواقع الجديد، وكان سقوطه مغتالاً لحظة هائلة لا بد أنها خلخلت تلك الذاكرة الجمعية للشعب، ثم جاءت مرحلة مبارك، عملياً، فقدّمت صورة أكثر «واقعية» للحاكم تعايش فيها مع كونه لاعباً إقليمياً متهالكاً وليس فرعوناً يسيّر العالم، بحيث تبدو أي محاولة لتغيير هذه الصورة مبعثاً على الكاريكاتورية، كما حصل حين غيّرت صحف مصر الرسمية مركز الرئيس المصري بين رؤساء آخرين بالاستعانة ببرنامج «فوتوشوب» على الكومبيوتر.
سجلت ثورة 25 يناير 2011 خضة كبيرة لما تعارفت أدبيات السياسة على توصيفه بـ «الدولة العميقة» التي تحمل ميراث آلاف السنين، وحملت آمال الأجيال المصرية الجديدة بتفاعل مع تغيرات التاريخ والجغرافيا يؤسس لدولة حديثة قادرة على التنافس في عالم تحكمه قوانين مختلفة، وليس سد النهضة الأثيوبي إلا تفصيلا رمزيّا لتشكل واقع مختلف بعد أن كان النيل والفرعون الفاعلين الرئيسيين في مصير المصريين.

رأي القدس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول شادي - القدس:

    سبقت الدول العربية – البرازيل تسحب سفيرها من تل ابيب احتجاجا على العدوان على غزة

  2. يقول شادي - القدس:

    “شلومو غازيت” رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية الأسبق:يجب التعاطي مع حماس كدولة تمكنت من من بناء جيش منظم بشكل ممتاز،لديها جيش يملك هيئة أركان حرب ذات قدرة مركزيّة فاعلة وقيادة عسكريّة استعدت للحرب بشكل مناسب، وبذلت جهداً عظيماً، وجندت كل قواها، لتكسب الحرب،بتدشين ترسانة هائلة من الصورايخ، ذات مستويات مدى متعددة، تتمكن من الوصول إلى أي بقعة في إسرائيل استناداً لقدراتها الذاتيّة في التصنيع، وتخطيط عمليات عسكرية ذات طابع هجومي وتنفيذها،داعيا للتفاوض مع حماس على هدنة طويلة الأمد مقابل رفع الحصار وتحسين الأوضاع الاقتصاديّة في غزة. ….قولوا للسيسي ….

  3. يقول شادي - القدس:

    عن المزاودة على مصر:

    ** خلافنا الآن مع العـصـابـة التي تسطو على إرادة الشعب المصري و ليس مع مصر و لا مع الشعب المصري.
    * كل الفلسطينيين يحبون مصر و عندهم الاستعداد ليفتدوها بأرواحهم.
    * عندما حاول التتار و الاسكندر غزو مصر كانت غزة اول من قاتلهم دفاعاً عن مصر، و تشكل غزة الآن خط الدفاع الأول عن سيناء.
    * المشروع الصهيوني يتحدث عن أرض إسرائيل من الفرات إلى الـنـيـل، و بالتالي فإن مصر كانت تدافع عن نفسها قبل أن تقاتل من أجل فلسطين، و الحرب الوحيدة التي دخلتها من اجل فلسطين عام 1948 اما الحروب التالية 1956 و 1967 فقد شنتها اسرائيل على مصر، و حرب رمضان شنتها مصر من اجل تحرير سيناء.
    * لا يجوز للعاهرة أن تتباهى بعفة قريباتها، و لا يجوز للخائن أن يتباهى بإخلاص و وطنية سابقيه، و لا يجوز للمخنّث أن يتباهى برجولة و تضحيات الشهداء.
    * يقوم الحثالات بتحويل نقد الناس لخياناتهم و كأنه مهاجمة لمصر و دورها لحشد العامة خلفهم من خلال اصطناع مشاعر وطنية زائفة، و هذه لم تعد تجدي مثل السابق، قد يصدق الناس أكاذيبك مرة، و لكنهم قادرون على رؤية خياناتك بوضوح في النهاية.

    1. يقول siddig:

      شادي – القدس شكراً على الكلام الرائع وليت الخونه يفهمون .

    2. يقول طه مصطفى:

      احسنت يا شادي !

  4. يقول محمد USA:

    قرأت مقالك وكنت سعيدا بعرضك للتطور التاريخى بمصر وتأثيره على عليها، سعدت بأمانة تحليلاتكم لعقود من الزمن عشتها فى مصر وجدت نفسى اعيشها من جديد بوعي اكثر ويفخر أمجد.
    أستاذنا العزيز…..لك تقديرى وشكرى وإحترامى.

  5. يقول Anuar:

    شكراً أخي شادي على هذا التعليق الشافي والدقيق ومن أجمل ما قرأت .

  6. يقول ابو سامي د.حايك:

    نحن في الشرق خاصة و في دول حوض البحر المتوسط عامة نعيش على أرض مهد الحضارات و بين آثار آلاف السنين يرتبط الماضي فيها بالحاضر فأجدادنا يعيشون بيننا و هذا ما يعطي الإستمراريه و أضف إلى ذلك اللغه العربيه التي نقرؤها كما كُتِبت منذ عصر الجاهليه أو ما قبل و هذا ما لا يتسنّى للشعوب الأخرى أن تتمتّع بهذه الميزه فهذا البعد التاريخي بعمقه لا يقتصر على مصر وحدها و إن كانت أربعون قرنا لا تزال تطل على المصريين من قمة الأهرامات صباحَ مساء و تعطيها المركز الأول و السابق في موكب الحضارات من الفراعنه إلى الإغريق ثم الرومان حتى مجيء الحضاره العربيه الإسلاميه و من الممكن أن تكون مصر تعودت على حكم الفرد و ارتطمت فجأة في سياق الربيع العربي بالشعب الذي لم ينزل ليهتف للقائد و يحييه و لكن يطلب منه أن يرحل فورا و لم تكن مصر الكبيره مهيّئه لأي شيئ من هذا فلمّا رحل الفاسد المكروه في خلال ثلاثة أسابيع دخلت مصر في مرحله إنتقاليه لم تخرج منها بعد فليس من السهل أن تتوقف إستمراريه على مدى قرون لتحل محلها بداية استمراريه جديده بحكم الشعب على أسس ديمقراطيه تعتمد على الأئتلاف و ليس الإقصاء و لا فرق هنا بين حزب أو فرد يعمل لسلطته كأنه يعيش أبدا و لشعبه كأنه يموت غدا فكلاهما مناهض للديمقراطيه و سوف تعيد مصر الكرّه تلو الأخرى حتى تحقق الديمقراطيه الصحيحه و التي لا تتردد فيها هتافات الشعب يريد إسقاط النظام لأن الشعب نفسه هو النظام !

  7. يقول Hassan:

    بعد الإنقلاب العسكري الذي وقع في مصر أرادوا أن يجهزوا على غزة بالعدو الصهيوني وبمصر وبمن وراء مصر فاصطدموا بقوة غزة.

  8. يقول حميد الجزائر:

    المسار الانثرو تاريخي لمصر ليس مبررا ،لبقاء الرؤية التقديسية للحاكم ،وبمجرد تكسير هذه الرؤية في 25 يناير ،بداية فاتحة قلب الهرم السيكولوجي والسوسيولوجي لمقاربة الحكم ،واولوية الفرد والجماعة على الحاكم ،حتى وإن بدى أن الامر عكس ذالك ،نظراللإغتصاب المؤقت للسلطة ،فإن هذه الحالة عرضية ولن تدوم طويلا

  9. يقول damak adel _ tunis:

    والأمر نفسه يفسّر كيف استدارت دائرة الاستقرار التاريخي والتهمت إمكانات التغيير الذي حصل بعد ثورة 25 يناير فعادت الأمور إلى ما كانت عليه، كما يفسّر الطبيعة الأيقونية الكبرى للحاكم المصري، وهو ما رأيناه في صورة جمال عبد الناصر ثم ما نراه الآن في التعظيم الشعبي للرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي الذي ذكرت مراسم تنصيبه بذلك الإرث الهائل العتيق.,.????

  10. يقول أبو أشرف ـ تونس:

    غريب وعجيب جدا جدا.إذ لم يكن يدر بخلد أي عربي أن يصل الأمر بحاكم عربي أن يقف مع إسارا ئيل ضد أي جهة عربية!!!!!!!!!!!!خاصة إذا كانت صغيرة كغزة.الخلاف يزول،لكن الجراح وخاصة النفسية لن تندمل الا بمعجزة.قال عبدالناصر: أنا وأخي على الغريم.أما أن يقف عمليا من يزعم أنه يترسم خطاه مع الغريم ضد الأخ لهو أغرب من الخيال.هل نسي ما قامت به إسرائيل في حق مصر.أم أن الهزيمة كانت نفسية أكثر منها عسكرية؟.كارثة انسانية لن تطول ،وعلى الباغي تدور الدوائر.

1 2 3

إشترك في قائمتنا البريدية