تاريخيا، دوما ما هددت البيئة الجافة والصحاري الشاسعة وغير المسكونة لمصر الأمن الغذائي والمائي للبلد الأكثر سكانا في شمال إفريقيا والشرق الأوسط.
ولولا الموارد المائية لنهر النيل، ما كان يمكن توفير الحد الأدنى من مياه الشرب ومياه الري للاستخدامات الزراعية والمياه اللازمة للاحتياجات الصناعية. غير أن التغيرات المناخية المستمرة وكذلك الزيادة المطردة في عدد السكان طوال العقود الماضية جعلتا من الاعتماد الأحادي على النيل سياسة غير مضمونة العواقب سعت الحكومات المصرية المتعاقبة لتغييرها.
فبسبب التغيرات المناخية، ستعاني مصر من ضغوط بيئية متصاعدة تشمل ارتفاع درجات الحرارة وارتفاع مستويات مياه البحار وتراجع معدلات سقوط الأمطار وتآكل المناطق الساحلية وتكرر السيول المفاجئة وانخفاض مخزون المياه الجوفية مع ارتفاع نسب ملوحتها.
والأرجح هو أن هذه الأخطار ستتفاعل معا لتضع مصر وسكانها في مواجهة أزمة ندرة المياه وفي مواجهة تهديدات إضافية للأمن الغذائي وهشاشة خطيرة للقطاعات السكانية في المناطق الساحلية والمناطق المعرضة للسيول وتداعيات سلبية على النشاط الاقتصادي.
الأرجح أيضا هو أن التكيف مع التغيرات المناخية سيستلزم من المؤسسات الحكومية ومن القطاع الخاص تقديم موارد وإمكانات إضافية إن لترشيد استخدامات المياه (وهو الأمر الحادث بالفعل) أو للتوسع في خطط الحماية الاجتماعية للقطاعات السكانية المهددة في أماكن عيشها ورزقها أو لتطوير القطاعات الاقتصادية الأساسية بالانفتاح على «التحول الأخضر» في إطار تمكين القطاع الخاص والشراكة الفعالة بينه وبين الاستثمارات الحكومية التي يتعين وضع ضوابط لها لكيلا تسيطر منفردة. وإذا كان الكثير من ترشيد استخدامات المياه من خلال «إعادة التدوير» والكثير من التوسع في خطط الحماية الاجتماعية يحدث أيضا (تخصيص المزيد من موارد الموازنة العامة لبرامج تكافل وكرامة وبرنامج حياة كريمة على سبيل المثال) فإن الوعي الحكومي باحتياج بعض القطاعات السكانية لسياسات حماية إضافية (كسكان المناطق الساحلية) وكذلك تنفيذ صناع القرار لخطط خصخصة بعض المصالح الاقتصادية الكبرى المملوكة للدولة ولدعم القطاع الخاص عبر سياسات مالية وإجراءات شفافية متوافق عليها يظلان دون مستوى المتوقع والمطلوب.
الزيادة السكانية المستمرة في مصر ستعمق من الضغوط البيئية على القطاعات السكانية الهشة في المناطق الساحلية، خاصة في السواحل الشمالية المطلة على البحر المتوسط
والحقيقة أن الضغوط البيئية على مصر ليست بالمستحدثة، فالطقس الحار (متوسط درجات الحرارة السنوي هو 22.5 درجة مئوية) وندرة سقوط الأمطار (المعدل السنوي هو 33.3 مليلتر تتركز نسبتها الأكبر على السواحل الشمالية المطلة على البحر المتوسط ويتوقع تراجعها بسبب التغير المناخي في المستقبل القريب) والكثافة السكانية المرتفعة وضعت البلد التي كانت يوما «سلة الغلال» للإمبراطورية الرومانية، من جهة وبصورة تصاعدية، على حافة تهديد دائم بالجفاف وغياب الأمن الغذائي ودفعتها، من جهة أخرى، إلى الاعتماد الكامل على مياه النيل للشرب والزراعة وكافة الاحتياجات الأخرى من الموارد المائية. غير أن مياه ذلك النهر العظيم الذي وهب مصر الحياة لم تعد كافية وصار محتما على أهلها وحكوماتها ترشيد استخداماتها وإضافة موارد جديدة.
بين 1989 و2018، زاد عدد المصريات والمصريين بمعدل تجاوز 2 في المائة سنويا ليصل إجمالي السكان في 2021 إلى 104 ملايين نسمة. وتصاعد مع الزيادة السكانية الطلب على المياه للشرب وللري الزراعي والإنتاج الصناعي ومشروعات الطاقة المتجددة، بل ورتب التوسع في استصلاح الأراضي الصحراوية ضغوطا إضافية على الموارد المائية للبلاد واجهتها الحكومة الحالية بالتوسع في جهود إعادة التدوير. وعلى الرغم من النجاح الحكومي الراهن في خفض المعدل السنوي للزيادة السكانية والذي صار دون 2 في المائة في 2022، إلا أن المتوقع هو أن يصل عدد المصريات والمصريين إلى 160 مليونا بحلول 2050 (وذلك وفقا لتقديرات البنك الدولي).
بل أن الزيادة السكانية المستمرة في مصر ستعمق من الضغوط البيئية على القطاعات السكانية الهشة في المناطق الساحلية، خاصة في السواحل الشمالية المطلة على البحر المتوسط. دون أخذ ارتفاع مستويات سطح البحر في الحسبان، تواجه السواحل الشمالية خطر الفيضانات وتآكل الأرض وتراجعها. في بدايات الألفية الجديدة، قدر العلماء المختصون أن ما يقرب من 2.4 في المائة من «الإقليم المصري» سيواجه أخطار التآكل لكونه يهبط دون مستويات 10 أمتار فوق سطح البحر، ونبه العلماء آنذاك إلى أن هذه النسبة من أراضي البلاد يقطنها ما يتجاوز ثلث السكان (حول 37.6 في المائة كانوا آنذاك 25.5 مليون مصرية ومصري) وإلى أن معدلات كثافتهم أعلى من المتوسط العام في البلاد وهو ما يضعهم في مواجهة تحديات بالغة. وحين يضاف إلى تداعيات الزيادة السكانية من جهة والضغوط البيئية من جهة أخرى الخصائص الجغرافية لمصر، ومنها كون نسبة تقترب من 15 في المائة من دلتا النيل معرضة لخطر الغرق الكامل بحلول 2100، يصبح من الضروري والملح أن تنشط الحكومة من جهة وأن ينشط القطاع الخاص والمجتمع المدني من جهة أخرى للتعامل على نحو شامل ومتكامل مع ملفات التغيرات المناخية والضغوط البيئية والزيادة السكانية والموارد المتاحة ومعدلات النمو الاقتصادي والإنساني اللازمة لتأمين حياة الناس ومصالحهم.
تظهر هذه الحقائق مجتمعة، من جهة، أن التغيرات المناخية والضغوط البيئية لا تفسر بمفردها التحديات والأخطار التي تواجهها مصر اليوم. فمحدودية الموارد المائية ومعدلات الزيادة السكانية المرتفعة هما ظاهرتان سابقتان على تغير المناخ ويتفاعلان معه اليوم على نحو به إطراد وتصاعد. من جهة أخرى، يصير لزاما على المؤسسات الحكومية ومعها المصالح الخاصة والمدنية والأهلية أن تتحرك بسرعة للتوسع في جهود التكيف مع تغير المناخ وترشيد استخدامات الموارد المائية والحد من الزيادة السكانية ورفع معدلات النمو الاقتصادي بحسابات التوظيف الشامل والمتكامل للبشر والموارد والمكان.
كاتب من مصر