فاجأ البنك المركزي المصري السوق المصرفية بإصدار كتاب دوري يتضمن إنشاء نظام لتقديم «سيولة مالية طارئة» للبنوك التي تواجه أزمات سيولة في المدى القصير. ويتمثل الهدف المباشر من التمويل الطارئ في مساعدة البنوك على «احتواء الأزمات المحتملة والحد من تأثيرها» ومنع انتشار آثارها بما يضمن استمرار الجهاز المصرفي في أداء أعماله في خدمة الاقتصاد ككل. وقد صدر الكتاب الدوري بشأن التمويل الطارئ ليكون إطارا لآلية جديدة من آليات عمل البنك المركزي. وقد أثار إصدار نظام التمويل الطارئ علامات استفهام كثيرة حول سلامة النظام المصرفي، خصوصا وأن هناك توقعات قوية بحدوث خلل في التدفقات المالية من الخارج، وضغوط بسبب تأخير تنفيذ بعض الأعمال الكبرى في الداخل، وهو ما قد يتسبب في تعرض الجهاز المصرفي لعدم انتظام تدفقات السيولة المالية بالترافق مع تسويات المراكز المالية في بداية العام الحالي، وكذلك في النصف الثاني من العام الحالي، عندما تبدأ موجة ارتفاع أسعار الفائدة على الدولار.
مؤشرات قوة النظام المصرفي
لكن حقيقة أوضاع القطاع المصرفي في مصر، وقوة معايير السلامة المالية التي يطبقها البنك المركزي بحزم طبقا لمقررات «بازل» تؤكد أن إصدار نظام إتاحة «سيولة طارئة» للبنوك من جانب ليس إلا توسيعا لدور البنك بشكل عام من أجل ضمان استقرار النظام المصرفي واستمرار قوته في أدائه لأعماله. وطبقا لمؤشرات السلامة المالية لأكبر عشرة بنوك من البنوك الـ 38 العاملة في مصر فإن نسبة إجمالي القروض إلى الودائع في ايلول/سبتمبر الماضي بلغت حوالي 48.8 في المئة، مقابل 45.6 في المئة قبل 12 شهرا، ومعدل سنوي بلغ 44.7 في المئة في السنة المالية 2020 و 45.5 في المئة في السنة المالية 2019. وتستحوذ قروض القطاع الخاص على ما يقرب من نصف قيمة القروض الممنوحة من البنوك إلى عملائها، وهو ما يعني اعتدال نسبة انكشاف البنوك على القطاع الخاص وانخفاض المخاطر التي قد تنام عن اضطراب دورة التدفقات النقدية. وقد بلغت النسبة في ايلول/سبتمبر الماضي 49.7 في المئة، مقابل 52.7 في المئة قبل 12 شهرا. ومن الملاحظ أن إحصاءات الجهاز المصري تسجل انخفاض نصيب القطاع الخاص من القروض الذي كان قد بلغ حوالي 55.2 في المئة في السنة المالية 2020.
وتعتبر مخصصات الديون غير المنتظمة السداد أو المشكوك في تحصيلها واحدا من أهم معايير السلامة المالية التي تلتزم بها البنوك في مصر. وتتراوح نسبة الديون غير المنتظمة السداد بين 2 إلى 4 في المئة من إجمالي محفظة الديون للبنوك الرئيسية العشرة، وهي نسبة ضئيلة، ويتم في العادة تجنيب مخصصات بنسبة 100 في المئة من قيمتها لاهلاكها في حال التعثر. ولهذا فإن القطاع المصرفي المصري يعتبر من أقوى القطاعات المصرفية في الشرق الأوسط من حيث تدفقات السيولة والالتزام بمعايير السلامة المالية.
شروط منح السيولة الطارئة
وقد تضمن نظام إتاحة السيولة الطارئة للبنوك الذي أعلنه البنك المركزي عددا من الشروط المعيارية المؤهلة للحصول على ذلك النوع من التمويل، وتكلفة وضمانات الحصول عليه، وطريقة إدارته، والظروف التي قد تتطلب تجديده كليا أو جزئيا. كما تضمن أيضا طريقة سداد البنوك المستفيدة للتمويل الطارئ وكيفية سداده أو تصفيته بالكامل عند انتهاء أجله. وطبقا لهذا النظام فإن الهدف من منح السيولة الطارئة يتمثل في المحافظة على ثقة العملاء في البنوك وضمان استقرار أدائها لأعمالها اليومية. ولا يتم منح التمويل الطارئ إلا بعد أن يكون البنك المستفيد قد استنفذ كافة الطرق الأخرى للحصول على السيولة من سوق الإنتربنك أو سوق المال بشكل عام، وان يتقدم بطلب الى البنك المركزي للحصول على السيولة. بمعنى أن يكون التمويل بنظام منح السيولة المؤقتة هو الملاذ الأخير أو طوق النجاة الذي يقدمه البنك المركزي للبنوك.
وتتضمن الشروط المعيارية لاستفادة البنوك من التمويل الطارئ أن يقتصر ذلك على البنوك الملتزمة بمعايير السلامة المالية. ومعنى ذلك أن البنوك التي تتراخى في الالتزام بمعايير السلامة المالية ليست مؤهلة للحصول على التمويل الطارئ. ولا يتم تقديم التمويل الطارئ أو السيولة المؤقتة إلا بعد أن يقدم البنك المستفيد ضمانات قوية في مقابل قيمة التمويل المطلوب. وتتكون هذه الضمانات أساسا من أوراق مالية حكومية لدى البنك، يتم نقل حقوقها القانونية بنسبة 100 في المئة إلى البنك المركزي المصري، وذلك لضمان حقوقه. وطبقا لنصوص الكتاب الدوري يتم تغطية قيمة السيولة الطارئة بنسبة 100 في المئة على الأقل، وقد تزيد نسبة الضمان المطلوب عن ذلك. ويتم احتساب تكلفة حصول البنك المستفيد بواقع 5 في المئة على الأقل فوق سعر إقراض البنك المركزي إلى البنوك لليلة واحدة الذي يبلغ حاليا 9.25 في المئة. ولا يزيد أجل السيولة الطارئة عن 180 يوما، لكن مجلس إدارة البنك المركزي له الحق في تمديد أو تجديد ذلك الأجل كليا أو جزئيا.
وهذا يعني عمليا أن البنوك يجب أن تعلم من الآن أن الحصول على السيولة الطارئة هو إجراء صعب ومرتفع التكلفة، بما يستدعي ضرورة الحرص على إدارة محفظة الديون بكفاءة، لتجنب التعرض لنقص السيولة إلا في حالات طارئة جدا. ومن شأن ذلك أن يرتب أيضا التزامات ثقيلة على عملاء البنوك عند طلب القروض، وتجنب الحصول على قروض ضعيفة الجدوى، لأن تكلفة التعثر ستكون مرتفعة جدا سواء على البنك أو العميل، حيث أن العميل المتعثر سيتحمل العبء النهائي لزيادة تكلفة التمويل الطارئ. كذلك وضع البنك المركزي شروطا دقيقة لكيفية إدارة التمويل الطارئ للبنوك المستفيدة إلى الدرجة التي ستصبح فيها تلك البنوك تحت رقابة يومية في شأن استخدام التمويل الطارئ، فقد حظر النظام استخدام ذلك التمويل في توزيعات الأرباح على الأسهم أو دفع مكافآت للمديرين أو العاملين، أو في إعادة شراء أسهم البنك المستفيد في البورصة أو في تمويل أطراف أخرى مرتبطة بالبنك مثل الشركات الفرعية أو العمليات مع شركاء آخرين. ويلتزم البنك المستفيد بتقديم بيان شهري إلى البنك المركزي يوضح التزامه بمعايير السلامة المالية، كما يخضع أيضا لرقابة يومية من البنك المركزي في شأن إدارة السيولة الطارئة.
موانع تقديم سيولة طارئة
أوضح نظام تقديم السيولة الطارئة من البنك المركزي الموانع التي لا يجوز فيها حصول البنوك المتعثرة على السيولة الطارئة. ومن أهم الشروط ألا يكون البنك خاضعا لإجراءات التصفية، فإذا كان البنك في مثل تلك الحالة فلا يجوز له التقدم بطلب إلى البنك المركزي في شأن الحصول على سيولة. وقد أشرنا إلى شرط الالتزام المطلق بمعايير السلامة المالية، وأن يكون البنك قبل اللجوء إلى البنك المركزي بطلب الحصول على تمويل طارئ قد استنفذ كافة السبل الأخرى للحصول على التمويل الذي يمكنه من الاستمرار في القيام باعماله المصرفية. كما يجب أن يقدم البنك الضمانات الكافية من حيث النوع والقيمة التي تغطي نسبة 100 في المئة على الأقل من التمويل المطلوب؛ فإذا كانت الأصول المتاحة لدى البنك غير كافية أو غير جديرة بأن تكون ضمانا، لا يجوز أن يحصل على التمويل الطارئ.
وكما ذكرنا فإن الحد الأقصى لأجل التمويل الطارئ يبلغ 180 يوما فقط، فإذا انتهت مدة التمويل يكون على البنك المستفيد سداد قيمة السيولة الطارئة التي حصل عليها من البنك المركزي مضافا إليها قيمة الفائدة المتفق عليها التي حددها البنك المركزي بواقع 5 في المئة على الأقل فوق سعر إقراض البنك المركزي إلى البنوك لليلة واحدة. فإذا عجز البنك المستفيد عن السداد يقوم البنك المركزي بتسييل الضمانات المأخوذة من البنك المستفيد والحصول على قيمتها لسداد قيمة السيولة الطارئة. وقد يجد مجلس إدارة البنك المركزي أن عجز البنك المستفيد عن السداد في الموعد المحدد قد نتج عن ظروف قهرية خارج إرادته، وفي هذه الحالة قد يقرر تمديد أجل السداد بمدة مماثلة أو أقل، لكن ذلك يرتبط بتعديل التكلفة المستحقة على البنك المستفيد، وقد يكون هذا التعديل برفع سعر الفائدة فوق السعر الوارد في الاتفاق الأصلي، أو بزيادة نسبة الخصم على الضمانات المقدمة من البنك المستفيد، وهو ما يعني ضرورة حصول البنك المركزي على ضمانات إضافية. ويمكن القول أن نظام تقديم سيولة طارئة في حال التعثر يمثل حجر زاوية في ضمان استقرار النظام المصرفي، يقلل إلى أدنى حد احتمالات التعثر، ويقدم للبنوك المتعثرة طوق نجاة يمثل الملاذ الأخير لبقائها على قيد الحياة.