أزعم أننا لن نعرف تفاصيل المفاوضات التي سبقت الحدث وواكبته قريباً، إذ خارج الدائرة الضيقة من اللاعبين الرئيسيين من قوى خارجية، سواء غربية بزعامة الولايات المتحدة، أو شرقية تترأسها مملكة آل سعود، وتلك التي تبحث عن دورٍ كتركيا والقوى الفاعلة داخلياً من جيشٍ وأجهزة أمنٍ واستخبارٍ، فإن ما يصلنا من تفاصيل ما دار ويدور في الكواليس دائماً منقوصٌ ملتو لاكته العديد من الأفواه وأضافت إليه رؤاها ومفهومها وما تصورت المتحدثين والناقلين قصدوه، من دون أن ننسى بالطبع إسرائيل، ذلك النجم الأزلي في كل عروض الشرق الأوسط، وأن نشير الى أن من تصدر عنهم التصريحات والتسريبات ليسوا ـ باستثناءات بسيطة حتى لتكاد تكون شبه منعدمة ـ فوق مستوى الشبهات في أحسن الأحوال، بل كاذبون مدلسون مضرجو الأيدي بالدماء في أوقعها، لا، لن نعرف التفاصيل قريباً.
وليس لنا معشر البسطاء المهمشين تماماً عن شبهة المشاركة في صناعة القرار، سوى أن نراقب الأحداث والمتغيرات والتحركات من كل حدبٍ وفي كل اتجاه، وندقق فيها باذلين جهدنا لكي لا تفوتنا شاردة في محاولةٍ لفهم ما يحدث؛ المشكلة هذه المرة لا تكمن فقط في سرعة وتيرة الأحداث، وإنما في كثرة تفاصيلها المذهلة مع تضارب التصريحات والتسريبات، ومع ما يبدو من تناقضاتٍ صارخة تصل حد غير المعقول في كثيرٍ من الأحيان، ليس أبلغ تعبير عنها من إطلاق سراح مبارك.
في هذا السياق نستطيع أن نتحدث عن كثيرٍ من المتغيرات المهمة التي إما أفرزتها ثورة 30 يونيو أو أبرزتها، ولعل أهمها حالة الحراك والحيوية والرغبة، بل الإصرار على المشاركة السياسية، وما أقدمت عليه الجماعة الأعرق من فصائل الإسلام السياسي من الانتحار، غير أننا إذا فُرض علينا اختيار ما نعتبره أهم النتائج على الإطلاق فإني لن أتردد في التفكير كثيراً: خروج المؤسسة العسكرية والأمنية، قلب نظام مبارك، منتصرةً باكتساح، حائزةً شعبيةً غير مسبوقة وسط مستجداتٍ اقليمية ودولية في موازين القوى استدعت تلك النتيجة أو مكنتها.
بدايةً، ولكي لا يزايد علي أحد في ما أكتب أو أتخذ من مواقف، فلا بد من التأكيد على أنني لست من مناصري الإخوان المسلمين، فضلاً عن كوني أحملهم نتيجة ما اعترى الحراك الثوري المصري من ضعفٍ وحيادٍ عن القصد، بدءاً باستفتاء 19 اذار/مارس الخائب على الإعلان الدستوري مروراً بجرنا إلى صراعات هويةٍ خارج التاريخ ودستورهم البائس، انتهاءً بفشلهم طيلة العام السابق واستكبارهم على النصح وإقصائهم للآخرين، لم تقدم الجماعة قبلة الحياة للنظام وحسب، وإنما دفعوا الناس للكفر بالثورة ولعنها وخفضوا سقف مطالب قطاعاتٍ واسعة إلى الحلم باستعادة وضع ما قبل 25 يناير كفردوسٍ مفقود، أجل أتفق مع كون القوات المسلحة تحركت استجابةً لمطلبٍ شعبي، إلا أنها تحركت لإعادة النظام إلى شارعٍ منهكٍ شديد الإرهاق، اجتمع عليه غياب الأمن والفقر وفقدان الثقة وخيبة الأمل في الإخوان، وبذا برزت المؤسسة الأمنية – العسكرية كالطرف الأكفأ والافضل تنظيماً، بل الأوحد والأقدر على ضبط البلد، بعد أن اثبتوا كفاءةً مبهرة في العصف بالإخوان، وإن لنا، بل يتعين علينا أن نسأل، هل الفريق السيسي والمؤسسة العسكرية ينتميان الآن إلى خلفية اجتماعية اقتصادية كانت تطالب بالثورة أو مؤهلة للاستفادة من التغييرات الاجتماعية التي تهدف إلى تعديل الميزان المختل والمعبر عنها بـ: عيش، حرية، عدالة اجتماعية؟
والإجابة طبعاً بالنفي، من المنطقي إذن أن نتساءل: إذن فما كل هذه الفرحة والاستبشار والتفاؤل؟ والإجابة على ذلك بسيطة، إن الجماعة في حقيقة الأمر لم تكن بديلاً بأي حالٍ من الأحوال عن نظام مبارك، فهي تتماهى معه من حيث انحيازها الطبقي الاجتماعي – الاقتصادي، مع فارق كونها ولأسبابٍ أيديولوجيةٍ غامضة، أكثر إقصاء، وكون النظام يتوفر له من الكوادر والتكنوقراط المدربين على إدارة شؤون الدولة جيشٌ من الموظفين الأكفاء (إن أرادوا)، وقد لعب النظام والمؤسسة الأمنية – العسكرية بذكاءٍ، اكتشفنا متأخراً كم هو مفرط حين تصالحوا معهم نظراً للقرابة التي ذكرنا، ولكونهم أفضل تنظيماً وانصياعاً للتركيبة الهرمية التي يسيطر عليها المرشد من أعلى، بما يسمح بالتنسيق التام ويقلل من المفاجآت، على عكس سائر التجمعات الشبابية البازغة التي ما تزال تفتقر إلى الشعبية والتنظيم وتتميز بالانفلات على وجه العموم.
لقد فشل الإخوان وفُضح إفلاسهم وتخلصت مراكز القوة من أمنٍ وجيشٍ منهم بسرعةٍ نسبيةٍ وكفاءة؛ ولأن التفاصيل في يقيني ليست أكيدة، فإن كل طرفٍ وحزبٍ يرى فيها ما يحلو له، ومن الإنصاف بوجه عامٍ أن نقرر أن حالةً عارمةً من السخط على الإخوان والجماعات الإسلامية، التي حملت السلاح، تسيطر على الشارع المصري، وأن سرديةً جديدة تشكلت أو هي آخذةٌ في التشكل مفادها، بطولة الجيش المصري المنقذ، جيش أكتوبر المعبر الأصيل عن الهوية والوطنية المصرية، وعامود الدولة الذي انحاز لشعبه لإقصاء الخونة المتآمرين مع الخارج، الثابتة عليهم قضايا تخابر والذين لم يتورعوا عن بيع مصر لحماس وأمريكا وإسرائيل، والذين بثوا الفوضى وكسروا الأمن طيلة ما يزيد على العامين، كل ذلك يتم في ظل حالةٍ من الغضب الشعبي العارم والمحبط بصفةٍ عامة من ضيق العيش وغياب الأمن وعدم تحقيق أية مكاسب، فهو رأي عام يبحث عمن يحمله المسؤولية، وقد وجد في الإخوان ضالته ـ وللحق فهم ليسوا بعيدين عن ذلك تماماً ـ مما يفسر تلك الرغبة المسعورة للثأر وشهوة الدم، بل والشماتة في الموت غير المعهودة عن الشعب المصري، هي لحظة استثنائية لشعبٍ عاش ومازال أزمةً طاحنة، ليس ذلك فحسب، بل إن نفس الجمهور الذي يشعر ويؤمن باستحقاقه مكافأةً وتعويضاً على ثورته وطول صبره، بات يعلق آمالاً عريضة على الجيش وعلى شخصية الفريق السيسي، في ظل استدعاءٍ صريح ومقاربةٍ لشخص الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، بكل ما يحمل ذلك من طموحٍ للعدالة الاجتماعية واستقلال القرار، الأمر الذي يغفل تفاصيل عديدة ومحورية كالسن والرتبة والوضع الاجتماعي، مما قد لا يؤهل الفريق السيسي للقيام بهذا الدور الذي ربما لا يطمح له الرجل الذي قذف به مسار التاريخ إلى حيث هو الآن إلى حدٍ بعيد.
على كلٍ، اليوم يوم القوات المسلحة بلا مراء، وقد أسعدهم الحظ بمتغيراتٍ عديدة على الساحة الدولية، فقادة القوات المسلحة الذين يستشعرون قوتهم الآن حتى النشوة بسبب شعبية المؤسسة في الشارع، اكتشفوا قوةً جديدة، لقد خرجوا عن طوع أمريكا والغرب (الأمر الذي لم يكن يحلم به مبارك) واكتشفوا أن أمريكا والغرب في أزمتهم الاقتصادية الجديدة وبزوغ عمالقة جدد على الساحة يحتاجون إلى التعاون مع قادة مصر، ربما بصورة لا تقل عن احتياج مصر لهم، خاصةً وأن ضربتهم الناجعة والسريعة نسبياً للإخوان أجبرت الجميع أيضاً على الاعتداد بهم في عالمٍ يحترم القوة أولاً وأخيراً بغض النظر عن كل الرطانات.
ما يعنيني على المستوى الشخصي والوطني في حقيقة الأمر هو هذه السردية الجديدة التي ذكرت سابقاً، فمع اتفاقي في كثيرٍ من تفاصيلها إلا أنني أتخوف وأتحسس من كيفية توظيفها مستقبلاً، فهناك العديد من التساؤلات من نوعيةٍ: هل سيتم تكريس معادلة: الاعتصام = الفوضى ويبيح التدخل العنيف من قبل الدولة؟ هل العنف والقتل سيصبحان نمطاً؟ هل سيكون النظام/ المؤسسة العسكرية من الذكاء بحيث يقوم بإجراء بعض إصلاحات هيكلية شكلية، كالحد الادنى للأجور مثلاً، للاستمرار وسحب البساط من تحت المعارضة بحيث يكون الرئيس المقبل عسكرياً، حالياً أو سابقاً؟
وحدها الشهور والايام المقبلة ستجيب على هذه الأسئلة المقلقة، غير أنني على يقين بأن الصراع الحقيقي لم يبدأ بعد.
‘ كاتب مصري
مقال رائع يادكتور ولكن هل تعتقد انة فعلا تم القضاء على الاخوان؟؟ اظن ان ذلك قد يستغرق وقتا اطول.
شئ اخر ماهو مصير العنف المضاد فى مصر من الجماعات الاسلامية وامثال الزمر؟؟