مصر: عن إجبار المواطن على الاعتذار عن طلب الديمقراطية

يغري القمع الحكم في مصر بالاعتماد عليه كأداة رئيسية لإدارة شؤون المواطن والمجتمع والدولة. يوظف القمع لضمان طاعة أو عزوف الأغلبية، ولكي يحد من ضجيج المعارضين. يقبل الحاكم ونخبته مخاطرة تراجع فاعلية القمع بمرور الوقت، إما تعويلا على الابتكار المستمر لممارسات قمعية أشد فتكا أو إلحاقا لأدوات إضافية بالقمع تستهدف أيضا إخضاع المواطن وضبط المجتمع والسيطرة على مؤسسات الدولة. ومن بين تلك الأدوات الإضافية يبرز اليوم الإعلام، فالحكم ونخبته والمصالح الاقتصادية والمالية والإدارية المتحالفة معه أو الموالية له تجد في وسائل الإعلام التقليدية كالصحافة والبرامج الإذاعية والتليفزيونية المساحة الأسهل لممارسة الهيمنة على الفضاء العام واحتكار الحديث باسم الوطن والمصلحة الوطنية. ومن خلال إحكام السيطرة على الإعلام، إن عبر تمرير قوانين جديدة للإعلام تكبل حرية التعبير عن الرأي وتستحدث هيئات حكومية كالمجلس الأعلى للإعلام والهيئة الوطنية للصحافة وظيفتها إخضاع الإعلاميين والصحافيين لإرادة الحكم أو بتوسيع ملكية الأجهزة الأمنية والاستخباراتية لوسائل الإعلام، يسعى الحكم إلى فرض صوته على الناس كالصوت الأوحد للشعب والصالح العام وكذلك إلى نزع المصداقية الوطنية والأخلاقية عن كل صوت آخر تارة تخوينا وتارة تشويها.
أما القطاعات الطلابية والشبابية ومنظمات المجتمع المدني المستقلة والفعاليات السلمية الأخرى التي تريد لمصر العودة إلى مسار تحول ديمقراطي حقيقي وترفض الهجمة السلطوية على الحقوق والحريات وتنأى بنفسها دوما عن التورط في خروج على القانون أو في عنف أو في تبرير للجرائم الإرهابية ولا تساوم على ضرورة الانتصار لمجتمع يسوده السلم الأهلي والتسامح ولدولة وطنية عادلة وقوية، هذه القطاعات والمنظمات تعاني من القمع الممنهج للحكم وتعجز عن أن تعين بعد بالدقة اللازمة الرؤى والأفكار والتوجهات التفصيلية التي ترغب في دعوة أهل مصر إلى مساندتها لكي تنجو البلاد في حاضرها ومستقبلها من الهجمة السلطوية الراهنة. بل ولم ينجح أنصار الديمقراطية في صياغة استراتيجيات بديلة للتعامل مع وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي لكي يخاطبوا الرأي العام بفعالية.
عبر السيطرة على وسائل الإعلام ومن خلال ممارسة القمع باتجاه المجموعات المدافعة عن الديمقراطية والحقوق والحريات، يواصل الحكم في مصر إلغاء السياسة وقصر صناعة القرار على المؤسسات والأجهزة والدوائر الرسمية (السلطة التنفيذية). يمكن خليط السيطرة على وسائل الإعلام والممارسات القمعية الحكم من تعقب المجتمع المدني الذي تغلق أمامه ساحات الفعل العلني وتقيده قوانين سلطوية الطابع، ومن تهجير المواطن من الفضاء العام عبر استخدام قوانين سلطوية أيضا تتوعده بالويل والثبور وعظائم الأمور ما لم يمتثل للصوت الأوحد القادم من مقر رئاسة الجمهورية. وفي باب تبرير القمع، تزين السيطرة على الإعلام للحكم الاكتفاء بالترويج لمقولات شديدة العمومية عن حتمية دفع الوطن إلى النهوض والمجتمع إلى التنمية والدولة إلى الاستقرار والحفاظ على الأمن القومي. وتلك جميعا أهداف لا يختلف عليها، غير أن مضامينها المحددة تختلف بشدة بين الممارسة الديمقراطية التي ترى في احترام الحريات والحقوق والتداول السلمي للسلطة أساس نهوض الوطن وتنمية المجتمع واستقرار الدولة وبين الممارسة السلطوية التي تصور الحاكم كبطل مخلص ومنقذ والملاذ الأوحد لتحقيق الصالح العام.

أنصار الديمقراطية بين الطلاب والشباب يدعون إلى العودة إلى مسار تحول ديمقراطي، وينادون برفع المظالم وإنهاء انتهاكات الحقوق والحريات وإيقاف الإجراءات العقابية التي أنزلت بالناس خلال السنوات الماضية

يواصل الحكم ذلك النهج المستند إلى السيطرة على الإعلام والقمع وإسكات الصوت الآخر، بينما تتمسك قطاعات شعبية ليست بالصغيرة بدعمها له إن اقتناعا بحتمية «الاعتذار» عن تجربة التحول الديمقراطي التي بدأت في كانون الثاني/يناير 2011 وانتهت في صيف 2013 بعد خطايا كبرى للقوى السياسية الإسلاموية والعلمانية أو تقريرا بضرورة «الاعتراف» بعدم ملاءمة الديمقراطية والحقوق والحريات لأوضاعنا المصرية أو تسليما بأن منع تحول مصر إلى «سورية جديدة» يستدعي تأييد الحاكم القادم من المؤسسة العسكرية. لا ينبغي، إذا، إنكار حضور قطاعات شعبية مؤثرة تؤيد الحكم السلطوي وتشك في نوايا الإسلامويين والعلمانيين وتستريح لحضور الحاكم ذي الخلفية العسكرية وتتخوف من غيابه لكيلا تلحق الأضرار بالوطن والمجتمع والدولة. والبعض الآخر يؤيد الحاكم ونخبته أملا في تحسن الظروف الاقتصادية والاجتماعية والمستويات المعيشية بعد سنوات التراجع منذ 2011. ولمقولات الخوف من أن تلحق المصائر الإقليمية بمصر ولآمال «الخروج من عنق الزجاجة» تروج وسائل الإعلام المسيطر عليها بكثافة بالغة.
غير أن حضور جمهور الموالاة لا يلغي أبدا وجود قطاعات شعبية معارضة وقطاعات أخرى ربما كانت قبل سنوات في خانات تأييد ودعم الحكم السلطوي وتبدو عليها اليوم مظاهر التململ والتأرجح بين العزوف والرفض الصامت للهجمة السلطوية وبين الجهر بالرفض ومعارضة انتهاكات الحقوق والحريات التي يتحمل مسؤوليتها الحاكم ونخبته. كذلك لا ينفي حضور جمهور الموالاة حقيقة ارتفاع أصوات بعض القطاعات الطلابية والشبابية مطالبة بإنهاء وضعية الأمة معطلة الضمير والعقل السائدة في بلادنا بسبب المظالم المتراكمة وسيادة القانون المتراجعة والعدل الغائب. أنصار الديمقراطية بين الطلاب والشباب يدعون إلى العودة إلى مسار تحول ديمقراطي، وينادون برفع المظالم وإنهاء انتهاكات الحقوق والحريات وإيقاف الإجراءات العقابية التي أنزلت بالناس خلال السنوات الماضية في إطار منظومة متكاملة للعدالة الانتقالية تضطلع أيضا بمهام توثيق الانتهاكات والمكاشفة والمساءلة والمحاسبة.
إلا أنهم وبجانب القمع الذي يواجهونه يوميا يقفون أمام تحدي ترجمة مبادئ الديمقراطية إلى قائمة واقعية من الرؤى والأفكار والتوجهات والمطالب القابلة للتداول في الفضاء العام، والقادرة على تقديم بديل واضح المعالم للحكم ولهجمته السلطوية بقوانينها وممارساتها الكثيفة، والراغبة في استعادة الثقة الشعبية في إمكانية إدارة تحول ديمقراطي ناجح في مصر.
دون مثل هذا الاشتباك الإيجابي مع الرأي العام واستعادة اهتمام العازفين بين المواطنين بمطالب الديمقراطيين، ستتواصل الهجمة السلطوية وسيواصل الحكم شيطنة الفكرة الديمقراطية ودفع الناس إلى مواصلة الاعتذار عن تجربتها بين 2011 و2013.

كاتب من مصر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عبدالوهاب:

    (تجربة التحول الديمقراطي التي بدأت في كانون الثاني/يناير 2011 وانتهت في صيف 2013 بعد خطايا كبرى للقوى السياسية الإسلاموية والعلمانية) ألإعتراف بالحق فضيله، هذه ليست مجرد أخطاء وإنما جرائم وإنتهاكات عظمى أرتكبت ولازالت ترتكب فى حق ألاف من خيرة المصريين الشرفاء، منهم من مات حرقا، ومن مات سجينا، ومنهم من ينتظر موعده مع عشماوى، ولايزال العلمانين ومشايخ السلاطين وغيرهم من المحسوبين على المثقفين ونخبة المجتمع، ممن باعو ضمائرهم للعسكر الأنقلابيين، وهو ما أسماهم كاتب المقال (جمهور الموالاة) يرقصون على جثث هؤلاء الأبرياء ينعمون برغد العيش، يا للعار، لك الله يا أرض الكنانة.

  2. يقول حسن:

    الذين فرطوا في الديمقراطية واستدعوا العساكر الجهال للحكم ؛ عليهم أن يدركوا أن ماسورة الدبابة لا تسمح بأي مظهر من مظاهر الديمقراطية، ولو كان مجرد كلام في الهواء . قلوبنا مع حسن نافعة الذي يقدمه أحد المحامين للقضاء بتهمة تكدير السلم العام!

    1. يقول حرة:

      بسم الله الرحمن الرحيم
      ان نجاح اي دكتاتور لايمكن ان تتم دون نشر الرعب من جهة ونشر الفقر والجوع من جهة اخرى .فلو رجعنا الى العديد من الدكتاتوريات في العالم الحديث او القديم فالحاكم الظالم استعمل العصا للضرب كل من تسول له نفسه الخروج عن طاعته ولوح بالجزرة التي جعلها حلما لكل جاىع فقير .
      فالسيسي لم يخرج من هذا الإطار فهو استعمل ولا زال يستعمل القوة الجامحة التي لا تخضع لقانون او مراقبة حتى من قبل ان يلتصق جسمه بكرسي الحكم وذلك في محرقة رابعة وهو لا زال يحرق ،يعدم ويعذب والذي يحميه في كل جراىمه هذه الكوكبة التي تسمى تجاوزا بالمثقفين الذين هم فئتين احداها خاضعة لطبيعتها الفاسدة المتأصلة داخلها واُخرى خاضعة رغما عنها .وايضا كوكبة ساهم الفقر والجهل في تكوين قناعاتها التي جعلت من الجزرة – التي يمنيها بها الديكتاتور- اقسى أمنياتها.
      فاذن لتأكيد السلطة الدكتاتورية لابد لنشر الخوف وممارسته للبعض ولابد من تجويع البعض واهانته.

  3. يقول .Dinars:

    دويلة الإمارات لا تدمر مصر بالعسكر بل تحاول العمل على إخضاع بقية الدول العربية دون استثناء بخلق الأزمات ومحاولة قلب الأنظمة المتبقية بالمال وبشراء عبيد لها في شتى المجالات لخدمة أجنداتها الهدامة.

  4. يقول أحمد عمر:

    «أنصار الديمقراطية بين الطلاب والشباب يدعون إلى العودة إلى مسار تحول ديمقراطي، وينادون برفع المظالم وإنهاء انتهاكات الحقوق والحريات وإيقاف الإجراءات العقابية التي أنزلت بالناس خلال السنوات الماضية».-
    عمرو حمزاوى.
    ونحن كشعب برأيك ملائكة، مفعول بنا
    على طول الخط؟!
    بالمناسبة:
    أنا أكتب تعليقى الآن وأنا نائم على لوحٍ
    خشبي مفروش ببطانية فوقها كوفرتة
    وأتغطى ببطانية، وأنام على التراب!!
    أسُب رئيس الجمهورية وحكومته أم
    أسب رعونتى وإسرافى فى هدر الوقت؟!
    كل الشباب الذين تتكلم عنهم هم شباب
    عفيّ قادر على تحرير فلسطين لو فتحت
    لهم الطريق إلى هناك. أنا أسوق مثالا
    على القوة الضاربة لديك فى مصر
    وأنا مصرى.
    وعلى أبسط الأمثلة فى ضياع الحقوق
    التى تتكلم عنها أن ثقافة جماعات الضغط
    السلمية من الشباب فى المنطقة الشعبية
    الواحدة غير موجودة.
    جماعات ضغط من الشباب لردع تاجر، وأنت
    تعلم جيدا أن ثقافة جماعات الضغط السلمية
    تأتى بنتائج مبهرة فى السويد مثلا، فى
    سويسرا…إلخ.
    لديك قوة ضاربة من الشباب، ماذا يفعلون
    فى المساء؟! إسأل
    الفايسبوك الذى يجنى مليارات الدولارات من شبابك تجد عنده الإجابة، وكل حقوق
    وانت طيب.

  5. يقول د. وسيم مصطفى كمال درويش:

    أليست الدكتاتورية هى أسلوب السيطرة على مئات الملايين من البشر فى دول العالم من أمريكا إلى الصين إلى دول العالم الثالث؟ أليس إعلاء المصالح العليا للوطن يتطلب التنازل بدرجات مختلفة حسب ظروف الوطن عن المصالح الفردية والقبلية والحزبية؟ ألا ترى استباحة المحفل الماسونى لثروات وكرامة وحياة حكام و مواطنى العالم الثالث منذ الثورة الصناعية الأولى مستمراً حتى الآن حيث نحيا الثورة الصناعية الرابعة؟

إشترك في قائمتنا البريدية