المقدمة الأولى: من بين أمور أخرى، يرتبط استقرار الدول والحكومات باستقرار دساتيرها التي تنظم حقوق وحريات وواجبات المواطن وتحدد سلطات ومهام المؤسسات العامة وأدوار المؤسسات الخاصة.
المقدمة الثانية: لا يعني استقرار الدساتير عدم جواز تعديلها الجزئي أو تغييرها الكامل، فهي بالفعل ليست بالنصوص المقدسة. توضع الدساتير في لحظات مجتمعية وسياسية تحدد هويتها وتؤثر على تفاصيلها، وقد يستدعي تبدل الظروف المجتمعية والسياسية إعادة النظر في الدساتير باتجاه التعديل أو التغيير. غير أن لإعادة النظر في الدساتير العديد من المقومات التي ينبغي توفرها والشروط التي يتعين إتباعها إن كان الهدف من التعديل أو التغيير الدستوري هو الاستجابة لظروف مجتمعية وسياسية جديدة مع الحفاظ على ضمانات حقوق وحريات المواطنين وضرورات التوازن والرقابة بين المؤسسات العامة (السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية) واستقلالية المؤسسات الخاصة.
المقدمة الثالثة: ثمة فوارق جوهرية بين الديمقراطيات وبين الدول والحكومات المستبدة فيما خص التعامل مع الدساتير. عادة ما تسعى الديمقراطيات إلى تطبيق الأحكام والاشتراطات والضمانات الوارده في دساتيرها وتختبر عن كثب طرق إدارة المواطنين والمؤسسات العامة والخاصة لحياتهم ومهامهم وفقا لها قبل أن تمس الدساتير بالتعديل أو التغيير. كما أن الديمقراطيات عادة ما تميز بين الدساتير التي يندر أن تمتد إليها أيادي الحكومات والبرلمانات وبين القوانين التي يتكرر تعديلها واستبدالها إن استجابة لتطلعات المواطنين أو لأسباب تداول السلطة بين قوى سياسية لها أولويات وبرامج مختلفة. أما الاقتراب من الدساتير، فلا يحدث في الديمقراطيات إلا حال حدوث تحولات مجتمعية وسياسية جذرية وحضور رأي عام كاسح يرى ضرورة مناقشة النصوص الدستورية لتقرير مدى ملاءمتها للواقع الجديد أو حتمية تعريضها لآليات التعديل والتغيير.
وعادة ما يضطلع الإعلام الحر وتضطلع البرلمانات المستقلة في الديمقراطيات، ودون ضغوط من الحكومات، بمهمة إدارة نقاشات واسعة حول الدساتير والانفتاح على حوارات وطنية حقيقية إن بشأن تعديلاتها المقترحة أو مقتضيات تغييرها بوثائق دستورية جديدة لا تنتقص من حقوق وحريات المواطنين ولا تخل بالتوازن والرقابة المتبادلة بين المؤسسات العامة وتدعم فاعلية المؤسسات الخاصة. فقط، في مراحل ضعف وتراجع الديمقراطيات قد تنزع الحكومات إلى التلاعب بالدساتير وفقا للأهواء السياسية.
في المقابل، تتعامل الدول والحكومات المستبدة مع الدساتير بانتقائية واستخفاف. أما الانتقائية فترتبط بالتعامل مع الأحكام والاشتراطات والضمانات الدستورية، فبينما يطبق منها ما يقر للحكومات والمؤسسات التنفيذية سلطاتها وصلاحياتها العديدة يتجاهل تطبيق النصوص المتعلقة بحقوق وحريات المواطنين والتوازن والرقابة المتبادلة بين الحكومات والبرلمانات والمؤسسات القضائية. وأما الاستخفاف فسببه هو نزوع المستبدين إلى تعديل وتغيير الدساتير كلما استدعى البقاء في الحكم ذلك أو فرضته الرغبة في تخليص النصوص الدستورية من المضامين الديمقراطية التي تقيد سياساتهم وممارساتهم. لذا تصير الدساتير في الدول والحكومات المستبدة إما دساتير لا تطبق منها لا أبواب الحقوق والحريات ولا النصوص الضامنة لاستقلالية البرلمان والقضاء وللرقابة على الحكام أو دساتير يتكرر تعديل وتغيير موادها المتعلقة بسلطات وصلاحيات وفترات الرؤساء (أو رؤساء الوزراء) حتى تتغول الأولى (السلطات) وتلغى القيود الواردة على الثانية (الصلاحيات) وتقبل الثالثة الإطالة دون سقف زمني نهائي.
تراوح الدول والحكومات المستبدة بين إنكار تعاملها الانتقائي مع الضمانات الدستورية للحقوق والحريات وضمانات استقلال البرلمانات والمؤسسات القضائية وبين التبرير بالضرورات الوطنية التي يروج زيفا لكونها تلزم بإعطاء الأولوية لحماية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية قبل الالتفات إلى الحقوق السياسية والحريات المدنية أو تقتضي إطلاق سلطات وصلاحيات الحكام
وعادة ما تراوح الدول والحكومات المستبدة بين إنكار تعاملها الانتقائي مع الضمانات الدستورية للحقوق والحريات وضمانات استقلال البرلمانات والمؤسسات القضائية وبين تبريره بالضرورات الوطنية التي يروج زيفا لكونها تلزم بإعطاء الأولوية لحماية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية قبل الالتفات إلى الحقوق السياسية والحريات المدنية أو تقتضي إطلاق سلطات وصلاحيات الحكام. وعادة ما تبرر الدول والحكومات المستبدة استخفافها بالدساتير ونزوعها إلى التلاعب بها إن بزعم حدوث تغيرات مجتمعية وسياسية جذرية هي وحدها التي تراها أو بتصوير بقاء الحاكم في منصبه كالشرط الجوهري لإنقاذ الوطن من أخطار الفوضى وتخليص الدولة من الوهن والمجتمع من التخلف والمواطن من العوز أو بالتقليل من أهمية استقرار الوثائق الدستورية بالترويج لمقولة «ليست الدساتير بالنصوص المقدسة» وهي هنا كلمة ظاهرها الموضوعية وباطنها تمرير الانتقائية والاستخفاف.
انطلاقا من المقدمات السابقة، تثير التعديلات الدستورية التي يبحثها حاليا مجلس النواب في مصر العديد من التساؤلات:
1 ـ هل يرى النواب الذين تقدموا بطلب تعديل الدستور الذي أقر في 2014 أن السنوات الماضية شهدت تطبيق الأحكام والاشتراطات والضمانات الواردة به فيما يتعلق بصون حقوق وحريات المواطنين وحماية استقلال البرلمان والقضاء والتوازن بين السلطات؟ هل يرون أن الحكومة، وهم كنواب مهمتهم مراقبتها بجانب التشريع، طبقت أبواب الحقوق والحريات وضمانات التوازن أم انتقصت منها على نحو ينبغي أن يحول دون إعطاء رئيس الجمهورية الذي تتبعه الحكومة المزيد من الصلاحيات؟
2 ـ ما هي طبيعة التحولات المجتمعية والسياسية الجذرية التي يعتقد النواب أنها حدثت بين 2014 واليوم وتبرر تعديل الدستور؟ ولماذا يرون أن التعامل مع تلك التحولات، إن كانت فعلا حاضرة، يستلزم التمكين لرئيس الجمهورية من البقاء في الحكم إلى تاريخ أبعد من نهاية فترته الثانية (2022) وإطالة سنوات الفترات الرئاسية ومنحه صلاحيات واسعة فيما خص أعمال السلطة القضائية وتعيين رؤساء المحاكم الكبرى والنيابة العامة والخصم من اختصاصات مجلس الدولة فيما يتعلق برقابته على صناعة القوانين؟
3 ـ كيف يفسر النواب المطالبون بتعديل الدستور المزج بين الإلغاء الفعلي وغير الديمقراطي لتداول منصب رئيس الجمهورية وبين الدعوة إلى تحسين شروط تمثيل النساء والأقباط وذوي الاحتياجات الخاصة والمصريين في الخارج وإضافة مجلس شيوخ بصلاحيات استشارية إلى مجلس النواب، وهذه اشتراطات ذات مضامين ديمقراطية؟ هل هي شيزوفرينيا الحياة السياسية المصرية بتناقضاتها الصارخة أم هي محاولة لتجميل وجه تعديلات دستورية لها جوهر سلطوي صريح؟
4 ـ ألا يرى هؤلاء النواب الذين وافقوا مبدئيا على التعديلات الدستورية أن المقترح فيما خص مهام القوات المسلحة لجهة الحفاظ على الدستور ومدنية الدولة يضع على عاتقها كهيئة وطنية ما لا تطيق وما لا ينبغي أن تتعرض له؟ أليس الحفاظ على الدستور ومدنية الدولة بمهمة كافة المؤسسات العامة، وفي مقدمتها البرلمان والقضاء الذي تهدد التعديلات المقترحة استقلاله؟ ألا ينبغي أن توكل هذه المهمة أيضا إلى المجتمع المدني والجامعات والإعلام، بل إلى المواطنين الذين يتعين تفعيل في مشاركتهم في الشأن العام والحياة السياسية بدلا من فرض الوصاية عليهم بتعميم الرأي الواحد؟ ألا يرى النواب المطالبون بالتعديلات الدستورية أن التوازن بين المؤسسات العامة العسكرية والمدنية وضبط مهام واختصاصات كل منها ضرورة رئيسية يقتضيها الحفاظ على الدولة واستقرارها وأن تداعيات الاختلالات هنا تظل حتما قاسية ودوما عصية على الاحتواء ؟ ألا يرون أن اختزال شروط حماية البلاد في بقاء رئيس الجمهورية الحالي في منصبه ينتقص من تماسك وفاعلية المؤسسات العامة الأخرى ودورها في تسيير شؤون المواطنين والمجتمع والدولة؟
5 ـ أين وجد النواب المطالبون بالتعديل الدستوري الرأي العام الضاغط المؤيد للتعديلات؟ وكيف سيساعدون البرلمان على إدارة حوار وطني موسع بشأن التعديلات بعد أن افترضوا حضور الإرادة الشعبية وحملوها عبء الدفع بتعديلات دستورية بها ما له جوهر سلطوي صريح وعنوانها العريض هو بقاء رئيس الجمهورية في منصبه ومنحه المزيد من السلطات والصلاحيات؟ وكيف سيبررون للرأي العام تعديل الدستور بعد خمس سنوات على إقراره ويفسرون رغبتهم في تعريض الاستقرار الدستوري للخطر؟ وكيف سيدار ذلك الحوار الموسع والفضاء العام مغلق والمجتمع المدني محاصر والإعلام يواجه تحديات الرأي الواحد؟
كاتب من مصر
إن الانهماك في جداوى التحول الديمقراطي، والاستجابة لضغوطات الرأي العام إنما تمثل الدفوع السلطوية في إشهار ملامح التعديل المقترح، والذي من شأنه أن يتغول على تفرعات العملية منذ نشأتها وتأطيرها في منحى يتجه بنا نحو الديكتاتورية المناوئة للانحياز الوطني . ومن شأن ذلك أن يأخذنا إلى النيوليبرالية فيما يعد تحولا جوهريا عن القناعات المستقرة لدى نفر كثير من الباحثين، مع الاضمحلال الواضح للتفكير الجدلي الهيغلي في غيامات التيه الانفعالي المتواكب مع المد الشعبوي في الكثير من الأقطار. وبقدر ما نرى في المستقبل المنظور، فإن الأمر برمته يتطلب توسعا وتكاتفا وفحصا وتمحيصا لإدراك كنه الحقيقة. وقد علمتني الحقيقة أن لا أقولها، البعض قال لأنها مرة، بضم الميم.
ليس مجلس وليسوا نواب وليس دستور وليس رئيس وليس قضاء وليست حريات ولست مواطن
هذه الصفحة متوقفة من فترة. هناك خلل ألكتروني، نأمل تداركه.
الاخ علي لا اعتقد بتوقف الصفحة لانني تصفحتها قبل قليل حاول تنشيط كومبيوترك
مع الشكر والاعتزاز
مهزلة دستورية جديدة تضاف إلى سجل الإنقلاب الدموي في سبيل تكريس سلطة الفرد و تمديد مراحل القبض على السلطة .وكم فيك يا مصر من المبكيات