مصر من هبة النيل إلى لعنة النيل

حجم الخط
2

تعتبر حروب المياه من الحروب المستقبلية التي تنبأ بها الكثير من الباحثين والمهتمين بالأمن المائي والسياسة الدولية، ولقد تضافرت عوامل مرتبطة بالمناخ وشح المياه، وأخرى متعلقة بالتوزيع غير العادل للثروات المائية المشتركة والصراعات الحدودية، لتزيد من حدة التوترات والنزاعات حول الماء، الذي يشكل شريان حياة رئيسيا لكل المجتمعات، ولطالما بنيت حضارات بأكملها على منابع ومجاري المياه، ولما كانت ندرة المياه وشحها سمة أساسية لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فإن مصر باعتبارها دولة تنتمي إلى هذا الحيز الجغرافي باتت من أكبر الدول المهددة بهذا الشح، وبالتالي الدخول في نزاعات حول الماء، فهبة النيل هاته التي بنت حضارتها على ضفافه منذ آلاف السنين، والتي تعتمد حاليا على هذا النهر لتأمين حوالي 85 في المئة من حاجاتها من المياه، أضحت مهددة بشكل جدي بتناقص حصتها من مياه هذا النهر، الذي يبلغ طوله حوالي 6677 كلم مربع، وما يستتبع ذلك من تداعيات إستراتيجية خطيرة على كافة مناحي الحياة بالبلاد، خاصة بعد إعلان اثيوبيا عن عزمها بناء سد ‘النهضة’ على ضفافه، لتفتح بذلك صفحة أخرى من صفحات الصراع المائي بين مصر كدولة للمصب واثيوبيا إحدى دول المنبع، فما هي خلفيات هذا النزاع الحاد وما هي سيناريوهات الحل؟
ينصب النزاع على مياه نهر النيل بين دول المصب ودول المنبع حول حصص المياه المشتركة، زيادة على المشاريع المائية التي تقام على النيل والتي تنبع بصفة أساسية من الشعور المتولد لدى دول المنبع بعدم عدالة الاتفاقيات المبرمة خلال فترات الاستعمار، التي تعطي مصر حصة الأسد من مياه النيل، وبالرجوع إلى الاتفاقيات والمعاهدات الدولية التي تنظم توزيع مياه النيل بين دوله تستوقفنا ملاحظتان أساسيتان:
أولا: الاتفاقيات التي تنظم توزيع مياه النيل تعود إلى مرحلة الاستعمار وأهمها اتفاقية 1929 التي تحدد حصة مصر بـ48 مليار متر مكعب من المياه.
ثانيا: انعدام أي إطار مرجعي قانوني مشترك ينظم توزيع واستغلال مياه النيل بين دول الحوض البالغة عشر دول، باستثناء اتفاقيتين بين مصر والسودان سنتي 1929 و1959 وهما دولتا مصب. بناء على ذلك يمكن القول بأن جوهر النزاع المائي في النيل ينبع أساسا من عدم رضا جل دول المنبع على الاتفاقيات المبرمة بين مصر ودول الاستعمار، التي تعطي مصر الحصة الكبرى من المياه، وعدم الاعتراف بها حيث شكلت سنة 1964 أول إرهاصات هذا الرفض، حيث طالبت دول المنبع بضرورة التفاوض مع مصر بشأن حصتها من المياه، وبعد ذلك في سنة 1977 أعلنت تنزانيا ورواندا وبوروندي عدم اعترافها باتفاقية 1929، لتقوم اثيوبيا بعدها ببناء سد ‘فيشا’ سنة 1984، وقد استمر هذا الرفض ليتخذ في نيسان/أبريل 2010 شكل احتجاج صريح لوزير خارجية بوروندي على حصة مصر، خلال اجتماع وزراء الري في مصر، ليتوج ذلك بإبرام كل من اثيوبيا، رواندا، تنزانيا، أوغندا، بوروندي، كينيا والكونغوالديمقراطية، لاتفاقية جديدة لتقاسم مياه النيل، من دون حضور دولتي المصب مصر والسودان، هذا الأمر الذي استغلته جيدا اثيوبيا لتعلن مؤخرا عن بناء سد ‘النهضة’ وتوسيع سعته بشكل كبير جدا، وكذا قيام البرلمان الاثيوبي بالتصديق بالإجماع على اتفاقية ‘عنتيبي’التي تخفض حصة مصر من مياه النيل.
من جانب آخر فإن العامل الخارجي لعب دورا مهما في تصعيد النزاع بين مصر ودول المنبع، وفي هذا الإطار يمكن الإشارة إلى الدور ‘الإسرائيلي’ الذي استطاع التغلغل في غفلة من الجميع إلى عمق الدول الافريقية لاستغلال فقرها وحاجتها الملحة للتنمية، لتصبح أحد اللاعبين الأساسيين في تحريك الأحداث السياسية في المنطقة، وهنا لا بد من التذكير بأن ‘إسرائيل’ تعاني من نقص حاد في المياه دفع بها إلى إعلان حالة الجفاف سنة 1999، كما أن لها مطامع في النيل مرتكزة على التوراة، وتستحوذ بالقوة على عدة مصادر مائية عربية، هذا من دون إغفال دور الولايات المتحدة الأمريكية، التي تنتهج سياسة ممنهجة في دول المنبع للضغط والتضييق على كل من مصر والسودان، التي أثمرت تقسيم السودان إلى دولتين، إضافة إلى الدور الصيني المهتم جدا بالدول الافريقية، التي لا شك أن ديمغرافيتها الهائلة وتقدمها الصناعي والتكنولوجي تحتم عليها التفكير باهتمام بالغ في هذه الثروة المائية الكبيرة من شتى الجوانب، خاصة على مستوى الاستثمار في المشاريع المائية الضخمة، وهذا ما يفسر عمل الصين على إحياء مشروع أكبر سد في أوغندا على النيل.
أمام وضع كهذا تجد مصر نفسها أمام تحد استراتيجي لأمنها القومي، خصوصا أنها تعتمد بشكل شبه كلي على النيل في احتياجاتها المائية، سواء للشرب او الاستعمالات الأخرى كالزراعة والصناعة، وما يزيد الطين بلة أن مصر لا تتوفر على أي موارد أخرى مائية مستقلة عن النيل، بخلاف باقي دول الحوض التي تمتلك مصادر كثيرة ومتنوعة، لعل أبرزها الأمطار الغزيرة التي تهطل على هاته الدول، وبمقابل هذا الوضع فإن مصر هي الدولة الوحيدة تقريبا التي تمتلك بنية تحتية مهمة لتخزين وتوصيل المياه، بينما الفقر وانعدام التنمية والإمكانات تجعل من هذه البنية غير متوفر في باقي دول المنبع، وبالتالي فإن هذه المفارقة العجيبة تجعل من مصر أكثر الدول حاجة للمياه، وأكثر الدول تأثرا بأي تغيير يمس حصتها منها، خاصة مع ساكنة تقدر بحوالي 85 مليون نسمة وبنية زراعية وصناعية ومائية محترمة.
أما بالنسبة لسيناريوهات الحلول فإن الكلام في هذا الإطار تراوح بين الحل العسكري وحلول ومقاربات أخرى سلمية، فبالنسبة للحل العسكري فإن الأمر يبدو غير مجد وغير عملي ويطرح استفهامات عديدة حول مدى استطاعة مصر القيام به، حتى لو فكرت فيه بشكل جدي، نظرا لعدة عوائق أهمها:
* عدم وجود حدود برية مشتركة بين مصر واثيوبيا.
* عدم امكانية التعاون المصري السوداني للقيام بهذه المهمة، نظرا لاختلاف سياسات مصر والسودان وعدم تجانسها، خاصة أنهما تتنازعان حول مثلث ‘حلايب’، ولكون السودان له ما يكفي من المشاكل الداخلية والخارجية.
* انقسام السودان إلى دولتين: السودان وجنوب السودان.
* عدم قدرة القوة البحرية المصرية للقيام بعمل عسكري من هذا الحجم.
* رد فعل ما يسمى بالمجتمع الدولي تجاه أي عمل عسكري مصري ضد اثيوبيا.
أما على مستوى اللعب على ورقة الأقليات لممارسة نوع من الضغط على اثيوبيا، فإن هذا الأمر جد ممكن من الناحية النظرية، خاصة أن اثيوبيا تعج بالأقليات والحركات الحقوقية والانفصالية، التي من أبرزها ‘جبهة تحرير أجاديا’ التي تناضل من أجل استقلال إقليم ‘أوجادين’ أو ‘الصومال الغربي المحتل’، إضافة إلى ‘حركة تحرير أورومو’ التي تسعى من أجل تحرير مناطق قومية ‘الأورومو’ التي يشكل فيها المسلمون حوالي 70 في المئة، إلا أنه من الناحية العملية فإن مثل هذا الدعم المصري للحركات الانفصالية في اثيوبيا ينطلي على كثير من المغامرة، لعل أقلها، رد الفعل الاثيوبي الذي سيتشدد أكثر فأكثر في مسألة حرمان مصر من حصتها من النيل، زد على ذلك التضامن الذي ستواجه به مصر من قبل مجموع دول المنبع.
وبناء على كل هذا يبقى لمصر أن تفكرجديا في الحلول الأخرى كالحوار والتفاوض كآلية من آليات حل النزاعات الدولية بالطرق السلمية والعمل على:
*بناء إستراتيجية تشاركية مع كل دول النيل، فالخيارات الانفرادية جد صعبة على مصر، خاصة أن مركزها ضعيف في معادلات مياه النيل، فأي خطط أحادية رهينة بمواقف دول المنبع، من زاوية أخرى لا يمكن لمصر فقط الاستناد إلى الحقوق التاريخية لضمان حصة مصر من مياه النيل.
*التفكير في إطار تنظيمي يضم دول حوض النيل، يتيح حل النزاعات المائية لدوله ودراسة المشاريع المائية فيه، والدخول في مشاريع مائية تكاملية وتشاركية بين كل هذه الدول ويتسع لعلاقات اقتصادية وسياسية بين هذه الدول.
* العمل على بناء علاقات جيدة مع الدول الإفريقية خاصة دول النيل.
*حل النزاع حول’ مثلث حلايب’ مع السودان وتقوية التعاون معها، وكذا مع الدولة الوليدة جنوب السودان.
* بناء اقتصاد مصري قوي يستطيع أن يدخل في علاقات تبادلية ومشاريع مشتركة واستثمارات مصرية، خصوصا على مستوى المشاريع المائية في أفريقيا.
* العمل على بناء دولة ديمقراطية حقيقية تتعامل بالجدية اللازمة مع القضايا المصيرية للشعب المصري وضمان الاستقرار السياسي الداخلي.
* التفكير في خلق شروط وآليات التخلص من اتفاقية ‘كامب ديفيد’ التي خسرت من خلالها مصر أكثر مما ربحته.
ختاما يجدر بنا التذكير بأن تنامي الدور الاثيوبي في المنطقة استفاد من عدة عوامل، لعل أبرزها استمرار حالة الإرباك وعدم الاستقرار السياسي لدولة مصر ما بعد ‘الربيع العربي’، إضافة إلى النتائج المتمخضة عن توقيع مصر قبل الثورة لاتفاقية ‘كامب ديفيد’، التي كبلت يديها عن القيام بدورها الإقليمي، سواء على مستوى الشرق الأوسط وقضيته الأساسية، وهي القضية الفلسطينية، أو دورها الافريقي الذي طالما كانت فيه مصر داعمة لحركات التحرر في أفريقيا، زد على ذلك سياسة النظام السابق الذي لم يتعامل بجدية ووطنية مع القضايا الحقيقية والمصيرية للشعب المصري، ومن بينها مسألة أمنه المائي، هذه العوامل وأخرى عديدة جعلت من نزاع المياه بين دول حوض النيل يبرز إلى السطح وبشكل جدي هذه المرة، خاصة بالنسبة لمصر مما يهدد الحياة الاجتماعية والاقتصادية والزراعية والصناعية وحتى السياسية فيها، لتصير مصر لعنة للنيل بعدما كانت هبة له على مدى آلاف السنين.

‘ كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول ouchenarif:

    شكرا للاستاد الخليفي.لقد ظل الماء وما زال وسوف يستمر من أهم الموارد الطبيعية على الاطلاق ذلك أنه عصب الحياة والعمود الفقري لها فبدونه لا يمكن لكائن حي أن يعيش، ولا يمكن لأغلب الآلات أن تعمل وبشحه تتدنى كل الفعاليات الاقتصادية والأنشطة البشرية الأخرى فالماء ضروري في المعيشة اليومية من مأكل ومشرب ونظافة ناهيك عن الأمور الأخرى مثل الزراعة والصناعة وتسيير عجلة الحياة لذلك فإن الماء هو أغلى مركب يتعامل معه الإنسان في حياته العامة والخاصة. وعلى أية حال فإن الصراع على الموارد الطبيعية ظل منذ الأزل سمة بني الإنسان ولكن هذا الصراع ظل يتطور ويتغير من جيل إلى جيل فخلال فترة الاستعمار كانت الموارد الاقتصادية والأيدي العاملة هدفاً استراتيجياً ثم تلي ذلك بعد الحرب العالمية الثانية وتكون قطبان رئيسيان هما الكتلة الشيوعية بقيادة الاتحاد السوفيتي (سابقاً) والكتلة الرأسمالية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية تحول الصراع إلى الاستحواذ على مراكز النفوذ ونشر الأيدلوجيات وبعد سقوط القطب الشيوعي بعد عام 1991م وانفراد الولايات المتحدة الأمريكية بقطبية العالم اتجه العالم إلى الصراع على تأمين مصادر الطاقة وفتح الأسواق العالمية للتجارة من خلال منظمة التجارة العالمية وغيرها من الوسائل.
    وعلى أية حال فإن الصراع إذا لم يوجد أو توجد أسبابه فإن الدول ذات المصالح الخاصة تسعى إلى خلق ذلك الصراع وبأي أسلوب وبأي ثمن ومن أهم الأمور التي يتم التركيز عليها الآن خصوصاً في منطقة الشرق الأوسط هو الصراع على المياه

  2. يقول أحمد الزموري:

    عاهدتنا دائما ان تختار مساهمتك بعناية شكرا على المقال

إشترك في قائمتنا البريدية