مصر هبة النيل. هو شريان حياتها ونمائها وبقائها. هكذا كان منذ الأزل وسيبقى الى الأبد.
لأن مياه النيل هي شريان حياة مصر، فقد اقتضى التحكم بها وتوزيعها، منذ فجر التاريخ، إقامةُ سلطة مركزية كانت، وما زالت، قوام الدولة المصرية ومحرّكها.
السلطة المركزية، وبالتالي الدولة المصرية، قامت بالقوة لا بالتراضي، وتنامت واستمرت بالقوة عبر التاريخ .
قوة السلطة والدولة تجسّدت بجيش الحاكم، سواء كان فرعوناً او سلطاناً او خديوياً او ملكاً او رئيساً جمهورياً.
مصر المعاصرة اسسها خلال العهد العثماني والٍ (محمد علي باشا) كان ضابطاً في الجيش العثماني من اصل ألباني. مصر الجمهورية اسسها ضابط (جمال عبد الناصر) في الجيش المصري كان اول حاكم للبلاد من اصل عربي.
منذ فجر التاريخ، كان للسلطة المركزية وبالتالي للدولة دور مركزي في حياة مصر. مركزية الدولة في الحياة المصرية السياسية والاقتصادية والاجتماعية تجسدت في القوات المسلحة، لدرجة ان باحثاً مصرياً مرموقاً، انور عبد الملك، ارّخ لمصر ووصفها بأنها مجتمع عسكري.
في مختلف عهود مصر الجمهورية، كان الجيش محور السلطة. مع مركزية الجيش ودوره المحوري وفعاليته، نشأت ظاهرة ‘الدولة العميقة’. إنها، باختصار، شبكة المؤسسات والانظمة وعلاقات القوة التي تشكّل بتكاملها كيان مصر السياسي وتسيّرُه.
ما من تحول، سياسي او اقتصادي او اجتماعي، حدث في مصر، مباشرةً او مداورةً، إلاّ بفعل الدولة العميقة. مصر الجمهورية قامت بثورة شريحةٍ من الدولة العميقة هي مجموعة ‘الضباط الاحرار’ على السلطات الهرمة والمتهرئة في النظام السياسي والسيطرة على مقاليد الحكم.
في عهدي انور السادات وحسني مبارك حَدَث امر مشابه، بمعنى ان شريحةً من الدولة العميقة، بقيادة كلٍ من الرئيسين، قامت بتصفية اجزاء اخرى داخلها ووطدت سلطتها فيها .
إسقاط مبارك بفعل ثورة 25 يناير 2011 ما كان ليتم لولا ان الجيش، محور الدولة العميقة، تخلّى عن حمايته. غير ان تدخل الجيش تمّ، كما تبيّن في ما بعد، نتيجةَ تفاهم بين قيادته والولايات المتحدة الامريكية يقضي بالتضحية برأس النظام دون جسمه.
الاحتفاظ بالنظام، ولا سيما بجانبه الاقتصادي والاجتماعي، استوجب تفاهم المجلس العسكري مع جماعة ‘الاخوان المسلمين’ على تأخير مطلب سنّ دستور جديد، وبالتالي إمكانية قيام نظام جديد، الى ما بعد انتخاب رئيس للجمهورية يسلّم وجماعته بإبقاء النظام الاقتصادي الاجتماعي على ما هو عليه.
بفوز محمد مرسي بمنصب الرئاسة وممارسته سياسةَ سلطويةً محافظةً، وفىّ الاخوان المسلمون تجاه امريكا بالتزام المحافظة على النظام الاقتصادي الاجتماعي .
غير ان مرسي والاخوان المسلمين تجرأوا، بعدما انفردوا بالسلطة، على إقصاء شريحة وازنة من الدولة العميقة، هي المجلس العسكري، بل امعنوا في نشر عناصرهم في مفاصل الادارات والمؤسسات والمرافق العامة، كما حاولوا ضبط القضاء وتوظيفه في خدمة السلطة الحاكمة، بغرض التغلغل في دواخل الدولة العميقة والسيطرة عليها. كل ذلك اثار حفيظة الجيش الذي كانت قيادته قد استشعرت تنامي معارضة شعبية واسعة لحكم مرسي و’الاخوان’ تضم القوى الشابة التحررية من ثوار 25 يناير، والمعارضة الليبرالية والناصرية واليسارية، كما اوساط ‘فلول’ نظام مبارك.
يتضح من معلومات وتحليلات وتقويمات مصادر ووسائل اعلام واجهزة استخبارات مصرية وعربية واوربية وامريكية، ان الولايات المتحدة كانت متجاوبة مع حكم مرسي و’الاخوان’، ولاسيما بعد التزامهم مبدأين شديدي الاهمية الاستراتيجية بالنسبة اليها: معاهدة السلام (كامب ديفيد) بين مصر و’اسرائيل’، والنظام الاقتصادي القائم على اساس اقتصاد السوق. ويذهب بعض المحللين والخبراء الاستراتيجيين الى أبعد من ذلك فيتحدثون عن استراتيجيا عليا تعتمدها الولايات المتحدة تقوم على اساس التعاون مع الإسلاميين عموماً والاخوان المسلمين خصوصاً على مستوى دول المنطقة جميعاً، من المحيط الى الخليج.
تعاونُ الولايات المتحدة مع الاخوان المسلمين لم ينعكس سلباً على علاقاتها بقيادة الجيش المصري، ذلك ان القوات المسلحة كانت دائماً، ومنذ عهد السادات، موضع اهتمام خاص من واشنطن، تدريباً وتسليحاً وتوجيهاً. الى ذلك، حافظت القوات المسلحة، وخصوصاً اجهزة استخباراتها، على تعاون مستمر مع نظيرتها الإسرائيلية في ما يخص تطبيق احكام ‘معاهدة السلام’ وفي احتواء فصائل المقاومة في قطاع غزة.
صعود المعارضة الشعبية واتساعها وفعاليتها أسعد القيادة العسكرية المنخرطة في صراعٍ مع مرسي و’اخوانه’ للسيطرة على مفاصل الدولة العميقة. وتردَدَ ان الجيش، قيادةً وضباطاً، وفّروا بوسائل متعددة الدعم والمساعدة للمعارضة الشعبية في سياق تحقيق هدف مشترك هو انهاء حكم مرسي و’الاخوان’.
من هنا يمكن الاستنتاج أن ثورة 30 يونيو وإسقاط مرسي وجماعته في 3 تموز/ يوليو ما كانا ليتمّا بنجاح لولا مشاركة الجيش. غير ان مشاركة الجيش ما كانت لتتم لولا رضى الولايات المتحدة. فقد وضعت واشنطن في حسبانها تعاظم المعارضة الشعبية لحكم ‘الاخوان’ من جهة، ومن جهة اخرى تخوّف حلفائها المحافظين، ولاسيما السعودية والامارات العربية المتحدة والكويت، من تداعيات حكم الاخوان المسلمين على معظم دول المنطقة .
مع ترئيس المستشار عدلي منصور، واعلان حكومة الدكتور حازم الببلاوي، ومباشرة مسؤولي امريكا واوروبا مساعيهم الحميدة للتوفيق بين الاخوان المسلمين واركان الحكم الجديد، تستوقف المراقب ثلاث ظاهرات وازنة :
الاولى، نجاح قيادة الجيش واركان المعارضة الشعبية في حشد مجموعة كفاءات في حكومة وطنية تمثل جميع ألوان الطيف المصري، وتوحي بأشخاصها وببرنامجها بالعزم على مجابهة التحديات القاسية التي تواجه مصر في هذه الآونة، ولا سيما على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي. اما على الصعيد السياسي فقد رُصد نفورٌ ملحوظ من الولايات المتحدة وسياستها تجلّى في امتناع زعيم التيار الشعبي (الناصري) حمدين صباحي واركان حركة ‘تمرد’ مقابلةَ وكيل وزارة الخارجية وليم بيرنز لرفضهم تدخل اي دولة في شؤون مصر الداخلية. اكثر من ذلك، دعت حركة ‘تمرد’ الى التنديد بالولايات المتحدة في التظاهرات والمسيرات الجارية دعماً للحكم الجديد.
الثانية، مبادرة الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي الى ايفاد مسؤولين كبار (وليم بيرنز وكاثرين اشتون وبيرناندينو ليون) الى القاهرة لتسهيل قيام حوار بين الاخوان المسلمين والحكم الجديد. يبدو ان ليون نجح في انتزاع اقتراح من ممثل ‘الاخوان’ جهاد حداد يقضي بإنشاء ‘اطار عمل’ لفتح قناة حوار. الجيش لن يعرقل قيام الحوار المنشود بعدما نجح في إقصاء ‘الاخوان’ عن السلطة، كما عن مفاصل الدولة العميقة.
الثالثة، ان ‘اسرائيل’ ليس لها دور مؤثر في دعم او إضعاف ايٍّ من الاطراف المصريين المتصارعين. فهي تعادي القوى العروبية واليسارية في المعارضة (الناصريون وحركتا ‘تمرد’ و’كفاية’ وتجمع ثوار 30 يونيو)، لكنها تتخوف ايضا من الكوادر المتطرفة في جماعة الاخوان المسلمين، لذلك فهي تفضل التعاطي مع الجيش المصري من حيث هو الجهة المسؤولة امنياً عن انفاذ احكام معاهدة السلام واحتواء فصائل المقاومة في قطاع غزة، ولكونه ايضاً محور الدولة العميقة والمستفيد الاكبر من المساعدات الامريكية البالغة نحو 1.3 مليار دولار، والمسيطر على نحو 40 في المئة من الاقتصاد المصري.
هل من شك في ان مصر كانت وما زالت هبة النيل والدولة العميقة؟
‘ كاتب لبناني