مصر وغزة… طريق الزعامة وباب التوبة

حجم الخط
0

رغم أنني التحقت بمهنة الصحافة منذ ما يزيد على 40 عاماً، ورغم قيامي بتغطية العديد من الأحداث الساخنة في مواقعها، من بينها الاحتلال السوفييتي لأفغانستان عام 1987، ووقف إطلاق النار في الحرب العراقية الإيرانية أغسطس 1988، ثم دخول المجاهدين الأفغان العاصمة كابول عام 1992، ثم الحصار الدولي على ليبيا خلال تسعينيات القرن الماضي، وأيضاً الحصار على العراق في ذلك التوقيت، وأول انتخابات رئاسية وتشريعية فلسطينية بالضفة الغربية عام 1996، وكنت دائماً وأبداً أحبذ ذلك النوع المثير من العمل الصحافي.. إلا أنني أعترف بأنني أصبحت لا أستطيع مجرد مشاهدة أحداث غزة، ولو (تلفزيونياً).
هذه هي الحقيقة المؤلمة، التي تؤكد بشاعة الأحداث، إلى الحد الذي لم تعد تتحمله الطبيعة الإنسانية، أو التكوين البشري، عصبياً وأخلاقياً ودماغياً، من هول المَشاهد، ليس فيما يتعلق بالدمار والخراب على مدار الساعة فقط، أو حتى ما يتعلق منها بمشاهد القتل والإبادة واستهداف المدنيين العزل، بل ما يتعلق بالدرجة الأولى بعمليات التجويع والموت البطيء من جهة، وإعدام أفراد الأجهزة الطبية في المستشفيات، وتصفية المصابين والمرضى من جهة أخرى، وهو الأمر الذي نقف أمامه مكتوفي الأيدي، ليس لنا من الأمر أي شيء، سوى ترديد (حسبنا الله ونعم الوكيل)، ونتجه إلى الاكتئاب والانزواء كمداً.
إلا أن ذلك الذي يجري في قطاع غزة، وأيضاً ما يجري لأبناء الضفة الغربية، والقدس الشريف، وفي المسجد الأقصى المبارك، يجعلني أختار الدولة المصرية، لأوجه رسالتي هذه إليها، باعتبارها الدولة الوحيدة التي تربطها الحدود البرية الوحيدة بالقطاع، ومن ثم تأتي مسؤولية مصر، قبل أي بلد آخر، عن ذلك الذي يجري على الأرض، خصوصاً ما يتعلق بإدخال المساعدات، وما يحاك بالمنطقة ككل، وما يحاك بمصر تحديداً، وهو ما ليس سراً، ذلك أنه يتم الكشف يوماً بعد يوم عن الكثير من المخططات، بتمويل عربي في بعض الأحيان. في الحقيقة، لن نستطيع أن نُصدق أبداً أن القادة العرب، ومن بينهم الرئيس المصري، لا يتابعون، أو لا يشاهدون، ما يجري في قطاع غزة، بالتالي لن نصدق أبداً أنهم، ينامون هانئين، دون منغصات، أو دون وجود ما يعكر صفو حياتهم، من تأنيب ضمير، أو خوف من الله، أو حتى لوم شعوبهم، أو على أقل تقدير ما سيسجله التاريخ بحقهم، ذلك أنهم بالتأكيد بشر، يخضعون لكيمياء البشر، وبيولوجيا البشر، وفسيولوجيا البشر، وأيضاً قلوب البشر وضمائرهم وإنسانيتهم. وعلى أية حال، فإن رسالتي سوف أوجزها في عدة نقاط كالتالي:

الرئيس المصري الحالي تحديداً، لديه من الاتهامات شعبياً، ما يمكن أن تزخر به ساحات المحاكم مستقبلاً، ومن ثم فإن الانتصار لغزة وفلسطين، هو الطريق الوحيد لمحو آثار كل هذه القضايا

أولاً: إن مصر التاريخ والجغرافيا، والثروة البشرية، هذا قدرها، أن تكون زعيمة ورائدة في المنطقة، بين أقرانها، لحكمة يعلمها خالق الكون، وإلا لما كان كل هذا التكريم التي تفردت به مصر في الكتب المقدسة منذ الأزل، وفي تأريخ الأولين وروايات الآخرين، بما يوجب عليها عدم الانسحاب من هذه الريادة، أو تلك الزعامة، لأي سبب كان.
ثانياً: إن الشعب المصري بكل أطيافه، يتطلع إلى ذلك اليوم الذي تعود فيه الريادة إلى مصر، بعد أن سطا عليها سفهاء القوم، وبدو الساحل، لحساب أسيادهم الفرنجة تارة، والصهاينة تارة أخرى، وهو أيضاً ما يوجب على القيادة المصرية، الإذعان لإرادة الشعب، صاحب القرار الأول والأخير، في كل شيء وأي شيء، وإلا فإن شرعية الحكم هنا تصبح منقوصة.
ثالثاً: يجب أن نقر، شعوباً وحكومات، بأن وجود ذلك النبت أو الكيان الصهيوني بالمنطقة، يمثل خطراً وجودياً على بلدان المنطقة ككل، وفي مقدمتها الدولة المصرية، التي لا يخفي ذلك الكيان طوال الوقت أطماعه فيها، ومخططاته للنَيْل منها، بدءاً من سيناء العزيزة، وحتى منابع النيل، وما بينهما من مسارات بديلة لقناة السويس، وغاز البحر المتوسط، وجزر البحر الأحمر.
رابعاً: لا يمكن القبول أبداً، بأن مصر شعب، وفلسطين شعب آخر، أو أن مصر وطن، وفلسطين وطن آخر، وإلا فإننا لم نقرأ التاريخ، ولم نع أبداً أن بوابة مصر الشرقية، ممثلة في فلسطين، وتحديداً قطاع غزة، هي حائط الصد أمام كل الأطماع ومعظم الغزوات التاريخية، وكانت دائماً وأبداً، رأس حربة مصر المتقدمة، بالقارة الآسيوية على أقل تقدير.
خامساً: إن الرئيس المصري تحديداً، لديه فرصة تاريخية، كي يصبح زعيماً تاريخياً أيضاً، في الوقت الذي تتطلع فيه كل الشعوب العربية قاطبةً إلى التحرر والانتفاض على هذه الأوضاع الكارثية، من ثم سوف يجد دعماً شعبياً عربياً منقطع النظير، يمكنه في نهاية الأمر من إجبار كل الأنظمة المتخاذلة بالمنطقة، على إعادة النظر في موقفها من الأوضاع الراهنة عموماً، والقضية الفلسطينية بشكل خاص.
سادساً: إن الرئيس المصري الحالي تحديداً، لديه من الاتهامات شعبياً، ما يمكن أن تزخر به ساحات المحاكم مستقبلاً، سواء ما يتعلق منها بقضايا داخلية أو خارجية، من ثم فإن الانتصار لغزة، القدس، فلسطين، هو الطريق الوحيد لمحو آثار كل هذه القضايا.
سابعاً: دأب وزير الخارجية المصري سامح شكري في الآونة الأخيرة، على ترديد تعبير (الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي) وهو تعبير لا يليق بمصر، وشعب مصر، وتاريخ مصر، ذلك أننا أمام صراع عربي- إسرائيلي تاريخي، أو على أقل تقدير صراع دول المواجهة العربية، وفي مقدمتها مصر، مع إسرائيل، ما دامت هناك أراضٍ عربية محتلة، وما دام الاحتلال يجاهر بأطماعه، وهو ما نأمل من الرئيس المصري تصحيحه على أرض الواقع.
ثامناً: إن دخول المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، مسؤولية مصرية بالدرجة الأولى، لأسباب واضحة، بل إن مسؤولية إمداد المقاومة الفلسطينية بالسلاح، مسؤولية مصرية خالصة أيضاً، لأسباب تتعلق بمصالح مصر القومية، واعتبار غزة- فلسطين، هي العمق الاستراتيجي للدولة المصرية، وأن استمرار وجود الكيان الصهيوني بهذا الشكل، يمثل خطراً كبيراً على مصر من كل الوجوه.
تاسعاً: لم يعد مقبولاً بأي شكل من الأشكال، وفي ظل هذا العدوان على الشعب الفلسطيني الشقيق، استمرار وجود سفارة وسفير للكيان في مصر، أو وجود سفارة مصرية وسفير لدى الكيان، بما يمثل رمزاً للتخاذل والانكسار، وعدم الشعور بالمسؤولية، تجاه قضايانا الوطنية، المحلية والخارجية على السواء.
وفي كل الأحوال، وعلى الرغم من عظم المهمة الملقاة على مصر، قيادة وشعباً في ظل هذه الأوضاع، إلا أن مصر تستطيع، ذلك فلديها من الأوراق الكثير، دون غيرها مما يطلق عليها «أشولة الأرز» أو صناديق المال، التي لم تسمن ولم تغنِ من جوع، وقت أن جاع أبناء شعبنا في غزة بالفعل، وقت أن لقي الأطفال حتفهم جفافاً، وقت أن ذهب المرضى للرفيق الأعلى إهمالاً وقصوراً، وقت أن مات الشيوخ قهراً، وقت أن هدمت المساجد والكنائس والمدارس والمستشفيات، دون أن ينتفض أي من زعماء التطبيع، ليعلن الانسحاب من هذه المصيدة، التي شرذمت العرب، ودمرت إرادتهم.
هي رسالة طلب نجدة واستجداء، ربما كانت غزة باباً للتوبة من الكثير من الآثام، كما هي باب للزعامة تماماً، ربما كانت باباً للتقرب إلى الله، في هذه الأيام المباركة من الشهر الكريم والتي لا تضاهيها أيام، ربما كان أطفال غزة أيضاً هم المنقذ من عقاب الله، ليس في الآخرة فقط، ولكن في الحياة الدنيا أيضاً، وهو ما يخشاه الموقنون بعدل الله، نتيجة عدم الانتصار للحق، ونسأل الله أن ألا يرينا مكروهاً في بلادنا، بسبب تقصير أولي الأمر منا وفينا.
كاتب مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية