لقد أثبت الرئيس الأمريكي جو بايدن أنه صهيونيٌ بامتياز، كما تبجّح هو نفسه عند زيارته لإسرائيل بعد أيام من عملية «طوفان الأقصى» عندما صرّح أمام نتنياهو وأعضاء حكومته أنه لا يعتقد أن على المرء أن يكون يهودياً كي يكون صهيونياً، وأنه يعتبر نفسه صهيونياً بالتالي. وقد وجد بايدن في عملية «حماس» تبريراً لإشهار صهيونيته بينما يمارس مهام رئاسة الولايات المتحدة، وتبريراً لدفع بلاده إلى خوض أول حرب مشتركة مع الدولة الصهيونية، ليس دعماً لها كالمعتاد وحسب، بل مشاركة كاملة تسليحاً وتخطيطاً وتبريراً. ولم تأتِ هذه المشاركة الكاملة في وجه الدول العربية المحيطة، مثلما كان الأمر عندما ساندت واشنطن الجيش الإسرائيلي في تصدّيه لمصر وسوريا في حرب عام 1973، بل أتت ضد الشعب الفلسطيني شبه الأعزل بالمقارنة مع دولة الاستعمار الصهيوني (على الرغم ممّا يدّعي الذين يفجّرون حروب «التحرير» وكأنهم يعيشون في حلم لا يلبث أن يستحيل كابوساً، بل يتعدّى بشاعةً وفظاعةً أسوأ الكوابيس).
وقبل أسبوعين، أخذ بايدن على نتنياهو إنكاره للجميل برفضه مشروع وقف إطلاق النار في غزة المصحوب بفسح المجال أمام تبادل جديد للمحتجزين، وقد زعم أنه لا يدري إن كان سبب ذاك الرفض حرص رئيس الوزراء الصهيوني على تفادي كل ما يمكن أن تستفيد منه منافِسه دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية (وهو ما أكّدنا عليه قبل شهر: «فخلافاً للتحاليل التي انصبّت على اعتبارات السياسة الداخلية الإسرائيلية وحدها، لا شكّ في أن رفض نتنياهو منح إدارة بايدن ما سوف يبدو كإنجاز سياسي لها في خضم الحملة الانتخابية الأمريكية الراهنة، إنما هو خدمة جليلة لترامب يتوخّى نتنياهو حصد ثمارها لو فاز الأخير بالرئاسة مرّة ثانية”)، في «لبنان واستراتيجية التهويل الإسرائيلية»،17/9/2024).
أما عتاب بايدن على نتنياهو الذي كان قد خاطبه لدى لقائهما الأخير في البيت الأبيض (والأزرق، بألوان العلم الإسرائيلي)، معرِباً له عن امتنان «الصهيوني الإسرائيلي الفخور» لـ«الصهيوني الإيرلندي-الأمريكي الفخور»، وذلك لمساندته الدائمة لإسرائيل طوال نصف قرن من العمل في المؤسسات السياسية الأمريكية، عتاب بايدن على نتنياهو قبل أسبوعين إذاً تمّ بتذكير هذا الأخير بما قدّمه المُعاتِب للدولة الصهيونية، قائلاً: «لم تساعد إسرائيلَ أيُّ إدارة أكثر مما فعلتُ»، ومكرّراً النفي ثلاث مرّات. غير أن عتاب العاشق هذا لم يُنقص البتة من العشق والتعبير عنه بالأفعال.
فقد أدلى بايدن بتصريحه بينما كانت القوات المسلّحة الإسرائيلية تصعّد عدوانها على لبنان، الذي دشنّته بتفجير أجهزة الاتصالات لدى «حزب الله» ثم بتصعيد كثافة القصف بما في ذلك استخدام كثيف لسلاح الطيران، وصولاً إلى اغتيال أمين عام الحزب، حسن نصر الله، في إشارة لا لبس فيها إلى أن الحرب هذه المرّة، شأنها في ذلك شأن الحرب على غزة غداة «طوفان الأقصى»، تعدّت نطاق العمليات الانتقامية المعهود، ولو عملاً بمبدأ الردّ بما هو أعنف بكثير ممّا يجري الردّ عليه كما جرت العادة، لتغدو حرباً تستهدف تحطيم العدو وإحراز الانتصار الكامل عليه.
بالرغم من أن الإدارة الأمريكية كانت تدعو بالأمس إلى التهدئة، وقد زعمت أن حليفها الإسرائيلي لم يبلّغها بنيتّه تصعيد عدوانه على لبنان، فإن كافة الدلائل تشير إلى عكس ذلك، لا سيما أنها منحت إسرائيل حزمة دعم عسكري جديدة
وهذا يعني في الحالة اللبنانية رضوخ «حزب الله» وإقراره الصريح والمباشر، وليس المُبهَم وغير المباشر من خلال الحكومة اللبنانية، بأنه قرّر وقف إطلاق النار وسحب كافة قواته المسلّحة إلى شمالي نهر الليطاني، مع إصرار إسرائيل على التأكد من حقيقة الأمر قبل إعلان وقف العدوان من جانبها.
وما إن بلغ العدوان الإسرائيلي على لبنان نطاقاً لم يعد معه مجالٌ للشكّ في نوايا الحكومة الصهيونية حتى رأينا إدارة بايدن تتراجع عن الدعوة إلى وقف النار لمدة ثلاثة أسابيع، التي كانت قد تقدّمت بها قُبيل ذلك بضغط من الحكم الفرنسي الحريص على مواصلة دوره كوسيط في الأوضاع الداخلية اللبنانية، وتنتقل إلى تأييد صريح لأهداف العدوان الصهيوني المعلنة بحجة أنه يندرج في «حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها». وبالرغم من أن الإدارة كانت تدعو بالأمس إلى التهدئة، وقد زعمت أن حليفها الإسرائيلي لم يبلّغها بنيتّه تصعيد عدوانه على لبنان، فإن كافة الدلائل تشير إلى عكس ذلك، لا سيما أنها منحت إسرائيل حزمة دعم عسكري جديدة بقيمة 8.7 مليار من الدولارات قبل يومين من اغتيال حسن نصر الله، وذلك من باب «الشراكة الاستراتيجية القوية والمستديمة بين إسرائيل والولايات المتحدة والالتزام الحديدي بضمان أمن إسرائيل» (أنظر، «حزب الله وخطأ الحساب»، 1/10/2024).
أما بعد أن قامت إيران بإطلاق فوج جديد من الصواريخ على إسرائيل قبل أسبوعين، فيما شكّل تصعيداً لردّ فعلها باستخدام الصواريخ البالستية التي لا تملك إسرائيل قدرة كافية على التصدّي لها، وذلك بعد الفوج الذي أطلقته في نيسان/ أبريل الماضي في ضربة كادت تكون رمزية إذ تشكّل معظمها من مسيّرات وصواريخ جوّالة، فقد هبّت واشنطن على الفور إلى التضامن مع الدولة الصهيونية فضلاً عن مشاركتها في التصدّي للهجمة. فأرسلت تعزيزات جديدة إلى المنطقة، وقرّرت إرسال منظومة الدفاع الجوي المضاد للصواريخ الباليستية «ثاد» إلى إسرائيل، مع مئة جندي لتشغيلها بما شكّل خطوة إضافية نوعية في المشاركة الأمريكية في الحرب الإسرائيلية، إذ إن تواجد الجنود الأمريكيين من شأنه أن يعرّضهم للأذى في حال نشبت حربٌ مفتوحة بين إسرائيل وإيران.
وقد بات مصير المنطقة معلّقاً على ما ستقوم به إسرائيل ردّاً على القصف الإيراني الأخير. فبينما تتواصل حرب الإبادة الصهيونية في غزة، وقد دخلت، مع الهجمة الجديدة في شمال القطاع، في طور يؤكدّ الشكوك حول نية إسرائيل في استكمال النكبة بطرد أهل غزة من قسم كبير من القطاع تمهيداً لضمّ هذا القسم إلى الدولة الصهيونية، فعلياً إن لم يكن رسمياً، فإن العدوان الصهيوني على لبنان يتواصل ولن يرضخ «حزب الله» ما دامت إيران بحاجة إلى ما بقي لديه من قوة ضاربة في مواجهة احتمال حرب مفتوحة بينها وإسرائيل (أنظر «لماذا ترفض طهران وقف النار في لبنان؟»، 8/10/2024).
بكلام آخر، فإن مصير المنطقة معلّقٌ على ما سوف يقرّره نتنياهو. فهل ينتظر الانتخابات الأمريكية في 5 تشرين الثاني/ نوفمبر القادم، ويقرّر في ضوئها إن كان حرياً به أن ينتهز بقاء بايدن لمدة شهرين في منصبه في حال فازت كامالا هاريس، أو ينتظر ما سوف يقترحه ترامب عليه في حال فوز هذا الأخير، وهو يتوخّى منه ضوءاً أخضر لحرب واسعة النطاق على إيران؟ أو ينتهز وجود بايدن في الرئاسة بدون تأخير كي يزجّ الولايات المتحدة من خلاله في حرب مفتوحة مع إيران بحيث يخلق أمراً واقعاً سوف يفرض نفسه على من سيخلف بايدن أياً كان أو كانت؟ أو يكتفي بضربة مؤلمة أعظم بكثير من ردّه على إيران في نيسان/ أبريل الماضي عندما ضغطت عليه إدارة بايدن كي يُبقي الردّ محدوداً خلافاً لدعمها الراهن لردّ تصعيدي، وهو يتوخّى من ذلك إحراج إيران بلزوم الردّ هذه المرّة، بحيث يلقي عليها مسؤولية الحرب واسعة النطاق التي ستعقب والتي ستشارك واشنطن بها باسم «الالتزام الحديدي بضمان أمن إسرائيل»؟ تلك هي الأسئلة التي تحكم مصير المنطقة، بل والعالم، في الأسابيع القادمة.
*كاتب وأكاديمي من لبنان