تكتسبُ الكتابة قيمتها من مقدار ما تحلمه من أفكار مبتكرة قد تبدو للكثيرين صعبة المنال، فضلاً عن الطريقة أو الصيغة التي يمكن أن تقولب فيها جمالياً، وأسلوبياً، كون هذه العملية تعدّ جزءاً من الرؤية التي يحتكم إليها الكاتب عند التأمل في الأشياء والمحيط.
ولعل من أسباب محدودية تأثير جزء عظيم من تلك الكتابات الإحساس بفقدان وهج الفكرة، وتواضعها، فالكثير من الكتاب والمبدعين يشعرون بأن الأفكار باتت عصيّة، أو أنها غير مثمرة، أو باهتة، وهذا لا يتأتى من قصور معرفي ـ في بعض الأحيان – بمقدار ما ينتج عن تحوّل في الرؤى، أو قصور عن إدراك كنه العالم، ولاسيما عند محاولة تفسيره، إذ غالباً ما نرتهن لتفسيرات تجنبنا الارتطام مع أسئلة إشكالية، فنكتفي بإعادة صوغ أفكار الآخرين، أو الدفاع عنها، أو تبنيها، وفي بعض الأحيان التسليم بأن العقل والروح قد نالا منهما الهرم، فتستحيل الأفكار إلى دورة مستمرة من التكرار.
من أشد الأمور صعوبة تجاوز الأفكار التي شكلت ثقافتنا، وشخصيتنا، بمعنى أن نعلق في المقولات التي وضعها الآخرون، فنعيد إنتاجها، ما يجعل العالم أكثر كآبة وضجراً، وهذا ما يدفعني للحديث عن أزمة الكتابة التي تعاني من الفوضى، فجزء كبير من سننها أمسى أقرب إلى تنافس يماثل عرض البضائع التي باتت مزجاة على الطرقات، وهذا ما يقودني إلى مساءلة عملية التلقي، من حيث القدرة على تمكين الأثر المنشود للكتابة بمختلف أشكالها وتمظهراتها، بمعنى أن ترتقي عملية التلقي من أجل تجويد الكتابة عبر طرح الرديء منها، واستقبال الجيد لتتحول الأفكار إلى بضائع كاسدة.
تبدو الكتابة مظهراً من مظاهر الحضارة، ولا يمكن في أي حال من الأحوال أن ننتقص من أي مساعٍ لتمكين الكتابة والقراءة، كما فعل التلقي، كما لا يمكن أن نمارس دور الوصاية عبر إطلاق الأحكام على ما يُكتب باستثناء ما جاء ضمن وظيفة نقدية تنهض على أسس معرفية، كما لا يمكن أن نعارض الأفكار، أو ما تنطوي عليه من محاولات لنقد الواقع، أو ربما بيان جماليات ما، علاوة على طرح بعض القيم الشعورية، فالكتابة هي المساحة الأخيرة للحرية لدى الإنسان، لكن ـ مع ذلك – تبقى التساؤلات عن مدى ما ننتج يومياً من كتابة عبثية لا تحقق الغاية أو الوظيفة منها!
في كتاب للمؤلفة ناديا شنتزلر بعنوان «ماكينة الأفكار» بحث عميق حول الإيمان بالقدرة على صناعة الأفكار بوسائل منهجية، وهي تقترب في هذا المجال من مبدأ البحث عن قيم الابتكار في تأثيث العالم بأفكار جديدة ذات عائد (نفعي) على الفرد والمجتمع، لكن لا تبدو لي هذه الفكرة سوى نصف الحقيقة، ولاسيما إذا ما تتبعنا آليات توليد الأفكار وتنزيلها في مواضع التأثير التي تتأتى من نموذج رأسمالي في التعامل معها، إذ تبرز المبادئ البراغماتية في الإفادة منها، ودفعها لأن تكون وسيلة من وسائل استجلاب العائد سواء أكان ماديا أم معنوياً.
في هذا الزمن ثمة حمى واضحة تجاه امتهان الكتابة، ومع أن عصرنا يُنعت غالباً بأنه عصر السيولة نتيجة المتعالية التقنية، بالتجاور مع هيمنة ثقافة التسطيح، والتفاهة، وغير ذلك من النماذج المتكلّسة، غير أنه من الملاحظ أن ثمة توجهاً واضحاً للإعلان عن ترويج مقولات الكاتب والمفكر والشاعر والمثقف، بوصفها أقرب إلى ظاهرة، مع حضور مصطلح المؤثرين في وسائل التواصل الاجتماعي، وكأن ثمة رغبة جمعية بالشهرة، تكاد تصيب الكل بغض النظر عن المؤهلات أو الأفكار التي تقدم! ويمكن تعليل ذلك بأن المنصات الرقمية أتاحت هذا الهوس، ما يقترب بنا من نسق الإنسان الذي يسعى دائما للسبق والريادة، وهذا يماثل تحقيق أكبر قدر من المكتسبات عبر ابتكار مشاريع جديدة ذات عائد جماهيري وهمي، وهذا ما يمكن أن نتلمسه في المضمر في سلوك البشر، ومعتقداتهم.
في كتاب للمؤلفة ناديا شنتزلر بعنوان «ماكينة الأفكار» بحث عميق حول الإيمان بالقدرة على صناعة الأفكار بوسائل منهجية، وهي تقترب في هذا المجال من مبدأ البحث عن قيم الابتكار في تأثيث العالم بأفكار جديدة ذات عائد (نفعي) على الفرد والمجتمع، لكن لا تبدو لي هذه الفكرة سوى نصف الحقيقة.
تبدو هذه النزعة قابلة للتطبيق على الكتابة التي باتت في سباق محموم للاستئثار بمقولة النتاج على المستوى الكمي العابر للأجناس الكتابية، وهذا يتطلب التعديل، ونقصد تطوير وسائل الإنتاج على مستوى الكتابة، كأن تنتقل من كتابة الشعر للنقد، أو من القصة إلى الرواية، أو من الشعر إلى الرواية، أو ربما العكس، فنحن ضمن مقولة بأننا منفتحون على معظم الأجناس الفنية، وبالتحديد الرائج منها، ما يعني أننا لا نكتب من رحم أزمة فكرة أو أسلوب، وهذا ينسحب ـ أيضا- على المشتغلين بالكتابة النقدية، فثمة سعي محموم لتطوير الرؤية النقدية، وتبني المناهج الجديدة، ولاسيما إذا كان الكاتب ينتمي إلى عصر أفلت مقولاته النقدية، مع سعي لموافقة التيارات النقدية الجديدة عبر اجتراح كتابة تتناسق ومزاج العصر، وهناك أيضاً من يسعى إلى تطوير الاختصاص الأكاديمي، كي يبقى ضمن مقولة الحداثة والمعاصرة؛ ما يعني أننا إزاء حالة أشبه بهوس مجتمعي يتمظهر على شكل نسق اجتماعي – ثقافي، حيث الكل يسعى لأن يكون متوافقاً مع مقولات الشائع والحديث والمعاصر، أو بالمعنى التجاري مع ما هو مزدهر هذه الأيام.
إن مقولات المعاصرة والحداثة والتحديث، وما بعد الحداثة، كما التطور، والعصرنة، وباقي المفردات التي تأتي في سياق التخلص من تهمة النمط التراثي غدت أقرب إلى حمى تنال من المثقفين، على الرغم من أن البعض لا يعي هذه المقولات، ولا يتمثلها، في حين أن البعض قد يبقى وفياً لنزعته التراثية، أو هويته التقليدية المتصلة ببعد أيديولوجي، أو تكوين ثقافي لا يعتمد منهجية النقد الذاتي، وهناك من البعض من بدأ يدرك أن الزمن قد تجاوزه، لكنه ـ مع ذلك – حريص على أن يبقي أفكاره رهينة تصور ثقافي لا تبعاً لمحاولة اختبار العالم؛ ونقده… إنما بحثاً عن معنى البقاء والوجود… ما يعني بأننا بعيدون عن تطوير الأفكار التي لا تبدو أسيرة تكوين فكري، إنما أصبحت أقرب إلى ارتهان مفهوم الصورة والإعلام، والبعد التنافسي، والرائج.. وهذا قد يقود إلى شيء من الإرباك الذي يعوق القدرة على تقديم أفكار أصيلة، بل إن هذا يعدّ تحدياً لقدرة الإنسان العربي من حيث القدرة على أن يحدث إضافة حقيقية من أجل تغيير عالمه المتداعي.
إننا في زمن باتت الآلة الإعلامية الرقمية هي التي تقود الأفكار، وتعيد إنتاجها؛ ما يعني أننا في سياق منتج للظواهر لا الحقائق، فلا جرم أن نجد مواقع إلكترونية للأفكار الجديدة، حيث يمكن لك أن تنتقي ما تريد منها.
في كتاب «ماكينة الأفكار» إيمان بقدرة المؤسسات على توليد الأفكار بصورة منهجية عبر اتباع وسائل محددة، لكن في الفنون والآداب والفلسفة تبدو الأمور جدلية على مستوى الأفكار المبتكرة والجذرية، كونها وليدة تجارب الأفراد لا المؤسسات التي غالباً ما تخنق الابتكار، كما يشهد بذلك التاريخ، ومن هنا، فإن توليد الفكرة وطرحها في كتاب جديد بغض النظر عن مضمونه لن يكون ناجعاً ما لم يتحقق على المستوى العملي أو الواقعي، وهذا لا ينتج إلا عن ذلك الباعث الذي لا يمكن تفسيره إلا لكونه اغتراباً عن المحيط، وهذا في رأيي الوحيد القادر على اجتراح منظومة من الأفكار قد تكون الأعمق تأثيراً.
كاتب أردني فلسطيني
المشكلة، عربيا، في القارئ والمتلقي وليس في الكًتاب والكتابة. البعض لا يفهم المراد من الكتابة
مقال رشيق تناول قضيّة الكتابة برؤية قلم دقيق.الكتابة الجدية تخضع لثلاثة معايير( أقصد الكتابة عند المثقف العربيّ ):
المعلومات الموسوعيّة كقاعدة عمق.التخصص المعرفيّ ذي الأفق.المنتج النوعيّ غير الخاضع للهاث الكم؛ للتسابق.