أحب الرجل الطويل القامة الصارم الوجه إمرأة جميلة حمقاء طائشة، وحاول كثيراً الفرار منها، ولكنه كان يعود إليها وقد ازداد حبه لها ضراوة وعمقاً، وقد قال لها يوماً : كلما ازدادت الكوارث، شعرت بأني موشك على الاقتراب مما أحلم بنيله، وهو أن لا يبقى على وجه الأرض مخلوق حي إلا أنت وأنا. أنت تصبحين حواء وأنا أصبح آدم، وننجب ذرية جديدة لا فساد فيها ولا اعوجاج، ونعيش في أرض جديدة ليس فيها تفاح محظور ولا قابيل ولا هابيل.
فضحكت المرأة الجميلة الحمقاء، وتخيلت الكرة الأرضية تصغر وتصغر حتى تصير تفاحة صغيرة شهية تقضمها بأسنانها القوية البيضاء، وسألت رجلها ذا الوجه الصارم : ومن سيحكمنا؟ حاكمنا الحالي أم ابنه أم حفيده أم أخته؟
فحنى الرجل الصارم الوجه رأسه واجماً متهرباً من سؤال يتجاهل جوابه.
هذه غيوم الخريف
كان الرجل والمرأة يتسكعان في شارع عريض تنتصب على جانبيه أشجار خضر وأبنية من حجر، فتنهدت المرأة متحسرة، وقالت للرجل : ليت بيتنا في إحداها!
فقال الرجل لها بصوت واثق وهو يضغط يدها التي يمسك بها : سنسكن في أغلاها وأفخمها.
وسار الرجل والمرأة صامتين، وفجأة سأل الرجل المرأة وهو يشير بسبابته إلى أعلى : أترين هذه الغيوم الرمادية التي تتحرك فوقنا ببطء؟
فأجابت المرأة قائلة : هذه غيوم الخريف المبشرة بالشتاء.
فقال الرجل لها : ولكني لا أراها غيوماً، ولا أراها إلا مجموعة من رجال المخابرات مزودة بأقوى المناظير، ولا عمل لها سوى مراقبة كل الناس.
فضحكت المرأة، وسألت الرجل : وأنا؟ هل تراني إمرأة أم تراني مخفراً؟
فابتسم الرجل بمكر، ولم يقل لها إنه يراها لحماً شهياً يؤكل نيئاً ومسلوقاً ومشوياً إنما تظاهر بأنه يتأملها بنظرات متفحصة ثم قال لها متسائلاً : ماذا أفعل حتى أقنعك بأني أراك أجمل إمرأة على سطح الأرض؟
فضحكت المرأة، وقالت للرجل : سأقتنع بأن كلامك غير كاذب إذا دعوتني إلى العشاء في أفخم مطعم، فأرفض مفضلة العشاء الذي يقدم إلي وأنا في السرير.
فقال الرجل للمرأة : ها أنا أدعوك إلى أفخم مطعم، وأفرح لأنك ترفضين دعوتي وتقترحين عشاء آخر.
فأفلتت المرأة يد الرجل، وقصدت بيته بخطى مسرعة بينما كانت الغيوم الرمادية تتابع مسيرتها المتمهلة حتى تبلغ حقلاً يقعد على عشبه بضعة رجال مسلحين بالبنادق، وقد صاح أحد الرجال بزملائه : اسكتوا واسمعوا ما أسمع.
فلاذ الرجال بالصمت، وتناهى إلى أسماعهم هدير طائرة، فقال واحد من الرجال : ستقصفنا كما قصفتنا البارحة.
وحملق الرجال إلى أعلى بنظرات مستطلعة، فلم يروا أية طائرة، ولم يروا غير غيوم رمادية، فسددوا إليها بنادقهم، وأطلقوا نيرانها، فتساقطت على أرض الحقل بعض الجثث، ولم يسقط حطام أية طائرة.
المستسلمون لراية النوم
نام الرجل، ولم تنم المرأة، وظلت مفتوحة العينين تحاول أن تتذكر وجه أمها التي ماتت قبل سنوات، فتخفق، وتكتشف أن صورة من يتوهم أنه مالك كل البلاد قد التهمت كل ما في ذاكرتها من صور، وهي الصورة نفسها التي تحتل جدران الشوارع والمكاتب والمتاجر والبيوت والمدارس لذلك المعبود الوارث القادر القدير المقتدر المهيمن القهار المحيي المميت الخافض الرافع الذي يجمع الناس على بغضه والخوف منه ومن رجاله الملطخين بالدم، ولكنهم يتبارون في الإفصاح عن حبهم له ولرجاله الأبطال.
ونامت المرأة، وظل الرجل ساهراً يحملق في الظلمة، ويركض في الأزقة الضيقة طفلاً مشعث الشعر، ويقول لأبيه إن أولاد الحارة ضربوه، فيقول له أبوه بصوت موبخ : لو كنت قوياً لما تجرأوا على ضربك.
ويقول لرئيسه في العمل إن راتبه ضئيل لا يكفي ثمناً للخبز ولإيجار بيت، فيقول له رئيسه : ولماذا لا ترتشي كما يرتشي زملاؤك؟
ويقول للمرأة التي يحبها إن الليل مقيم لا يرحل، فتقول له المرأة إن الليل مقيم كأن فجره لن يأتي.
ونام الرجل، ونامت المرأة، وبقيت دوريات الجنود تجوب الشوارع وتقتحم البيوت باحثة عن المطلوبين وتعتقل المدعين أنهم أبرياء الذين يبادرون بعد ساعات من الإعتقال إلى التخلي عن الكذب والإعتراف بأنهم مذنبون يستحقون شر عقاب.
سأقطفُ ورْدَك وردة وردة
لمس الرجل يد المرأة، فارتعش كأن الصيف الحار قد رحل فجأة ليحل محله شتاء كثير الثلوج، وقال لها بصوت مضطرب إنه مستعد من أجلها لأن يغتال ألف ملك، فضحكت المرأة، وقالت له : ليس لدينا ملوك. لدينا رؤساء يشبهون البطاطا العفنة.
وضحكت المرأة ثانية، وقالت للرجل بصوت جاد : عرفت الآن ماذا ستفعل بعد أن لمست يدي، فماذا ستفعل حين تلمس ركبتي؟
فلم يجب الرجل إذ كان منهمكاً في تخيل أنه لمس ركبتيها متحوّلاً سرب جراد يتساقط في دوامة من أوراق شجر، وتنفس بعمق كمن ينوي البقاء دقائق تحت الماء ثم لمس ركبتيها البيضاوين بأصابع خاشعة مبتهلة، وفوجيء أنه تحوّل إلى ما يشبه نهراً غزير المياه يعذبه العطش، فانقض فمه على شفتيها المبللتين منتقلاً من رجل رصين هادىء إلى نار وريح، ولكنه سمع في تلك اللحظة جرس باب البيت يرن بإلحاح، وبوغت بجيرانه الملتحين القاطنين في البناية التي يسكن في طابقها السادس يحتجون غاضبين على وجود إمرأة في بيته ليست زوجته أو أمه أو أخته، فهمدت الريح، وانطفأت النار، وباتت رماداً وغباراً، وقال لجيرانه متحدياً إن البيت بيته يستقبل فيه من يشاء، ونصح المتضايقين من جيرته أن يسكنوا في بنايات أخرى، وأخبر المرأة بما جرى، فضحكت، وقالت له بصوت مرتبك : لو تزوجنا لما تجرأ أحد على النطق بكلمة.
فقال الرجل : سنتزوج عما قريب، وستنجبين لي مائة ابن.
وتخيل الرجل والمرأة أنهما مطوقان بمائة طفل يصرخون مطالبين بما يصلح لأن يؤكل، فنظر الرجل إلى المرأة، ونظرت المرأة إلى الرجل، وكانت نظراتهما ملأى بالذعر.
لا تحاول الفرار
طلب الرجل من المرأة أن تضحك، فنظرت إليه بدهشة واستغراب، وسألته عن السبب الذي يدفعه إلى أن يطلب منها هذا الطلب، فقال الرجل لها : حين تضحكين أنسى الظالم والمظلومين.
فضحكت المرأة، ولكن الرجل لم يستطع نسيان الظالم والمظلومين، فأغمض عينيه، وتخيل أنه قد تسلل ليلاً إلى قصر الظالم، ودخل غرفة نومه، فوجده مستغرقاً في نومه، فانتضى سكيناً، وغرس نصلها في قلب الظالم الذي هلك تواً من غير أن تبدر عنه صيحة استغاثة، وتخيل الرجل أن أعوان الظالم لم يكترثوا لغيابه تحت التراب، واستمروا في بطشهم بالمظلومين العزل.
وفي تلك اللحظة سمع الرجل والمرأة ضوضاء الرجال الملثمين الذين يرتدون ثياباً سوداً يحطمون باب البيت، ويقتحمونه شاهري السلاح، وينقضون على الرجل، ويقيدونه غير مبالين بأسئلة المرأة واحتجاجها، ويقتادونه إلى سيارتهم التي نقلته إلى غرفة ضابط أمره بالتكلم فوراً والإعتراف بما كان ينوي أن يفعله، وطالبه بالكشف عن كل المعلومات وأسماء شركائه، فقال الرجل للضابط : ما الذي تريد مني أن أتكلم عنه وأعترف به؟
فقال له الضابط بصوت حانق : ما دمت مصراً على عنادك، فستعرف حالاً وسائلنا التي ستجعلك تعترف بأنك قاتل الحسين، وستعرف كل ما لدينا من وثائق عنك منذ أن كنت في بطن أمك حتى مماتك، وستعرف أيضاً كل ما لدينا من شهادات لجيرانك تكشف فسادك وانحطاطك.
وكانت المرأة في تلك اللحظة مغمضة العينين تتخيل أنها ورجلها غرابان يطيران في سماء فسيحة زرقاء، ولكن الرصاص المنطلق من الأرض يسقطهما جثتين ممزقتين.
جميل وجديد
قصة عظيمة تصور الوضع الراهن في سوريا ومصير شعبها في ظل الكارثة الإنسانية التي تتعرض لها من جميع الأطراف.
تحية إجلال وإكبار للقاص الكبير زكريا تامر
سريالية الجرح , عندما ينزف مشاهد الوطن- الظلم – الخوف و العشق المتلعثم حتى البلاغة.
لوحة من اروع ما قرأت في السنوات الاخيرة.
بوركت.