مظلّة الرواية

يُقال بأن شكل البذرة، يُخفي صورة الشجرة، لو شئنا أن نُطبّق هذا القول الفكري السائر على «بذرة الرواية» كشكل في التقصي عن صورة العمل الروائي الأخيرة لدى من يكتبه، أولاً، ومن ينشره أو يقرأه ثانياً.
تظل الرواية محكومة بالفضاءات التي تُخبئها وقائع مظلة مطوّية دائماً فما أن تُفتّح حتى ترتسم معالم الظلال، وتحدد مساقط الضوء، وحالات إتقاء المطر والشمس وأشكال الخطى المتحركة أو المتوقفة في المكان، وبناء الحوار والوصف تبعاً لذلك، فتغدو المظلة المفتوحة، هي وجهة النظر التي تحدد المخطط السردي، ومجالاً إنسانياً لشغل حيز من الفضاء المجتمعي والتعبير عنه.
وهذه- البذرة/ المظلة المطوّية- في العمل الروائي، هو شاغل نقدي، ينصرف إليه حالياً الصديق الناقد محمد جبير للتحضير إلى كتابه المقبل، فيما جاءت هذه الاستعارات في هذه السطور بمثابة مشاركة أفكار في صورة الكتاب المقبلة، وما سيحققه الكاتب في غمارها.
هكذا، أنت كصانع للعمل الروائي، تستعد من نقطة ما، لتفتح مظلتك .. بحثاً عن موطىء قدم كي تتحرك خطوة نحو باب مغلق، باب على جدار من ظلام، تتحرك خطوة أولى، تاركاً خلفك ركاماً هائلاً من الروايات والكتابات.
ركام هائل من الروايات، في جهة ما، كنت قد أستطلعت بذرتها الروائية، فوجدتها مضيّعة بين مصدرها الحكائي في المجتمع وبنائها الروائي في سياق أيديولوجي لسلطة ما.
ما أصعب أن تفتح مظلة بالنيابة عن الآخر؟!
مفاد القول، ليس لدى جّل الرواية العراقية قبل 2003مصدر أو متن حكائي إلا على النحو الذي تصهره الأيديولوجيا في مختبر السلطة، لذا فهي لا تمتلك بذرة روائية صالحة لإستنبات شجرة مجتمعية أو سردية بقدر ما تنتج وعياً ايديولوجياً زائفاً، أسفر عن معيار صارم بما يسمى آنذاك – البطل الأيجابي-، وتحديداً الستينيات وعقود ما بعدها من القرن الماضي، المأخوذ عسفاً عن صفات الشخصية المنتقاة في إطار الواقعية النقدية أو الاشتراكية. لقد كانت السلطات الحاكمة، تنتج الشخصية الخائبة والمحبطة فيما تظهر رواياتها وقصصها الشخصية الثورية والايجابية، إنه البطل الذي يرفع مؤلفه مظلة الأيديولوجيا معولاً الاستشراف على المستقبل، ويرافق الفقراء والمعدمين نحو الفردوس مثل شرعة أمل كاذب، ومن المفارقات العجيبة التي حصلت في نهاية الستينيات، وبداية السبعينيات من القرن الماضي، ان رواية الوشم لعبد الرحمن الربيعي، قد خرقت بامتياز هذا المعيار، وقدمت شخصية يسارية محبطة وإنهزامية، لكنها عدّت مقبولة ومتبناة على أوسع نطاق تسويقي ونقدي لأنها تشير إلى تعميم إحباط اليسار- الشيوعي- مقابل تسلم البعث للسلطة، أنهم يقبلون بنشرها وإقرارها كشخصية إنتهازية ومنكسرة تبعاً لقراءة سياسية ساذجة وسطحية فيما يجعلون وجودهم التسلطي معادلها المضاد، وتُوجد أمثلة عديدة لشخصيات في روايات أخرى، تبدي سلوكاً إجتماعياً منحرفاً غير ان طرح سلوكها المنحرف مقترناً بهوية انتمائها إلى فئة حزبية معينة، بغية الطعن والتشهير السياسي.
وبذلك، فان «الوشم» تمثل بذرة روائية صالحة للإستنبات، وكان من الممكن لها ان تستدعي صورة شجرة مجتمعية لو لا قراءة وتحوّير المجتمع الأيديولوجي للرواية، وضخّه التسويقي والنقدي في إطار رؤية السلطة المهيمنة، وبذلك أيضاً، تباينت القراءات عنها في بيروت والقاهرة عما شهدته نسخة بغداد المشوهة.
إذن، انت تفصل الآن، بذرة عن أخرى، وتستعيد مظلة حقيقية، كانت قد طوّيت في دواليب الماكنة الإعلامية.
ستبدأ من صورة الشجرة لتستعيد بذرتك الروائية، تتقفى أثر الكبو والإستطالة، ومنصات الطير في الأغصان وما تحدده الأوراق من فسحات الضوء وصوت الرياح ومساقط الظلال.
ها أنتذا لمّا تزّل في لحظة ما قبل الروي والرواية!
ستنطلق لتخوض في الرمل والماء بكل ما أوتيت من أنواء، لتصل إلى شجرتك الجديدة، حروف مبهمة بأصوات عشوائية على راحة يدك، ستغدو كلمات مفهومة وتتشكل جملاً متسقة وفقرات ومقاطع متتابعة.
وكان الأهم، ان تحدد موقعك من شجرة المجتمع، وتأخذ حيزك من الفضاء الإجتماعي لا السياسي والتعبير عنه، حينئذ يمكنك النظر إلى شجرتك الجديدة.
لعل المجتمعين العراقي والعربي، وبعد عقود وسلسلة وقائع لم يتجاوزا أفق الوقائع السردية في أعمال سابقة لنجيب محفوظ والطيب صالح وعبد الحق فاضل ومحمود أحمد السيد وغيرهم، لإنها أعمال، تحمل بذورها الواقعية في متون حكائية مجتمعية، لم تبتعد عن شجرة الواقع، فتقترب حتماً من مداه التنبؤي إذ تبقي نافذة مفتوحة على متغيراته، فيما عصفت المتغيرات المجتمعية بالروايات المسيسة، وأحالتها إلى ترديد منعكس وباهت لوقتها.
وتعود إلى روايتك..
يقول سعدي يوسف، البدايات دائماً مغلقة والنهايات دائماً مفتوحة، ولكي تبدأ روايتك، لابد من أن تفتح مغاليقها الأولى ومن ثم تسد برفق نهايتها المفتوحة.

كاتب عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية