عندما تتحدث ولا تجد من يسمعك، تشعر بالقهر والإحباط، ويصير أقصى طموحاتك أن تجبر من يتجاهل صوتك، الذي يعبر عن مطالباك وآمالك ـ أن ينصت إليك، ويا حبذا لو تم ذلك قسراً. ومن ثم، يلاحظ وجود الكثير من الساسة، الذين استفادوا من تلك الأمنية، عندما أخبروا العامة أنهم سوف يصيرون صوتهم المسموع لدى المسؤولين، لكن، عندما يخرج الفرد من إطار الفرد العادي لينغمس في أطر النخبة ـ أو الطبقة الحاكمة ـ فإنه يتناسى ما وعد العامة به، فبدلاً من أن يصير صوتهم لدى المسؤولين، يصير الأداة التي تكبت أصواتهم، والتي تعمل على تنفيذ أوامر النخبة، على حساب العامة، التي كان فردا منها وتعهد بأن يرعى مصالحها.
وعلى الرغم من ذلك، تجاهد العامة في سعي دؤوب إلى أن تجد طرقا أخرى لتوصل صوتها للمسؤولين، وأن تعبر عن مطالبها بكل السبل، إلى أن تجد من يمثلها، وعند هذه اللحظة تثبت وجودها، وتكون ما يسمى بـ»التيار الشعبوي». وقد ظهر مصطلح «الشعبوية» (populism) لأول مرة في القرن التاسع عشر، وبدأ الغرب في تطبيقه على مختلف السياسيين والأحزاب والحركات منذ ذلك الوقت.
وكمصطلح «الشعبوية» تشير إلى مجموعة من المواقف السياسية التي تؤكد على فكرة «الشعب»، وإعطاء الشعب صوتا مسموعا، وتخويله قوة يستطيع بها فرض رأيه ضد «النخبة»، التي يتواجد معها في حالة مقارنة دائمة. و»النخبة» كفئة، تتألف من المؤسسات السياسية والاقتصادية والثقافية والإعلامية ، التي تُعرَّف على أنها كيان متجانس، وغالباً، ما يشار للنخبة بأنها تضع مصالحها الخاصة فوق مصالح «الشعب». فالنخبة كثيراً ما تتبنى مصالح مجموعات أخرى تتبادل معها المنفعة – مثل الشركات الكبيرة أو الدول الأجنبية أو المهاجرين. وعلى مرّ الأزمان، يحاول الخبراء إيجاد تعريف واضح وثابت لمصطلح «الشعبوية»، بينما يحاول آخرين رفض المصطلح تماماً.
وبتغيير الحقب التاريخية، ومع تنامي أهمية الديمقراطية في حكم الشعوب، بدأت الشعبوية تتخذ شكلاً شبه ثابت، وتشكل كيانا مسموع الرأي، على الرغم من أنه غير منظم. وبدون شك، تساهم التكنولوجيات الرقمية الحديثة، ووسائل التواصل الاجتماعي في خلق شكل آخر «للشعبوية»، ليكون أكثر تنظيماً وذا صوت عال، يصل مباشرة للمسؤولين، فلم تعد نشاطاً غير مألوف احتجاجات رواد التواصل الاجتماعي على أنماط وأشكال كثيرة من مظاهر الحياة الاجتماعية والسياسية. فعلى سبيل المثال، ظهرت مؤخرا أفلام أو إعلانات، تخل بالشكل الرصين للإعلانات التجارية، التي يشاهدها أفراد الأسرة. ومؤخراً، قام رواد الفيسبوك بعمل حملات تهكمية متواصلة، تنتقد هذا الشكل المخل، والنتيجة، التفت المسؤولون لهذا الخلل، وأعطى القائمون على الأمر إنذارا للشركة بسبب تلك المخالفة. فما كان من الشركة إلا أن سحبت الإعلان من الأسواق. وقد تكرر هذا النمط عدة مرات، سواء في منتجات، أو مواد إعلامية، أي أن التيار الشعبوي قام بدور الرقيب الذي ينقل نبض الشارع للمسؤولين، لكن على النقيض، ساهمت التيارات الشعبوية في انحدار التذوق الموسيقي والغنائي الموسيقي في الوطن العربي، عندما ساهمت في تبني أغاني المهرجانات ونشرها على مواقع التواصل المختلفة، ما نجم عن ذلك تمهيد عقول العامة لتقبل هذا اللون الغريب أغاني «الهيب هوب» Hip Hop التي صار تواجدها في المجتمع العالمي مكين، بعد أن ظهرت على استحياء في مستهل سبعينيات القرن الماضي، أي أن التيار الشعبوي غير منظم، لكنه يعبر عن حاجة شريحة كبيرة من المجتمع تتفق على رأي أو فكرة واحدة.
وتضامناً مع صعود التيار الشعبوي المناهض للعنف والتمييز، انتشرت مظاهرات سلمية على الصعيد العالمي في ألمانيا وفرنسا وكندا، وغيرها من دول العالم المتقدم. وجميع المظاهرات تؤيد الاحتجاجات في الولايات المتحدة وتناهض التمييز.
وبالنظر لقوة التيار الشعبوي الذي صار بالفعل صوت الشعب، أو القوة الدافعة التي تغير المجتمعات، صار تواجده يتأرجح بين النخبة والشعب؛ فهو قوة إعلامية لا يستهان بها، وكيان ضغط سياسي واقتصادي من الدرجة الأولى، أي أن التيار الشعبوي طبق نظرية جيل ديلوز، وفيليكس جوتاري عن الأقلية الثورية، التي تستطيع أن تكون مركزاً لها خارج نطاق مركز الأغلبية الحاكمة المتحكمة في جميع الأوضاع، أي أن الشعبوية هي صوت الأقليات الذين لا يستطيعون التعبير عن متطلباتهم.
وبسبب تزايد التيار الشعبوي داخل دول العالم المختلفة، فكرت بعض حكومات العالم المتقدم أن تخصص مقاعد في البرلمان لممثلي التيار الشعبوي، نظراً لأهميته الكبرى التي تتجلي في تمثيله لنبض الشارع. فإبداء الاهتمام بالتيار الشعبوي الذي صار جارفاً في مختلف دول العالم يمنع الاحتقان بين الطبقة الحاكمة والشعب، فهو «نخبة في داخل النخبة». ولعل ما يشهده العالم حالياً من مظاهرات في الولايات المتحدة الأمريكية هو تجسيد حي لتنامي التيار الشعبوي، ومحاولة النخبة إعطاءه مزيداً من الحرية لكي يعبر عن رأيه. وبعيداً عما تكتنفه تلك الاحتجاجات من مغزى سياسي، ونوايا دفينة، إلا أن موقف جميع النخب، مؤيد ومستمع للاحتجاجات، على الرغم من تنامي أعمال الشغب والعنف. والسبب وراء عدم مواجهة النخب لتلك الاحتجاجات، أو إبداء أي محاولة لقمعها، هو عدم الرغبة في مواجهة أبناء الأمة بعضهم بعضا، حتى لا يصير هناك احتقان بين أبناء الشعب، ما يصنع المزيد من المواجهات والتفرقة.
وتضامناً مع صعود التيار الشعبوي المناهض للعنف والتمييز، انتشرت مظاهرات سلمية على الصعيد العالمي في ألمانيا وفرنسا وكندا، وغيرها من دول العالم المتقدم. وجميع المظاهرات تؤيد الاحتجاجات في الولايات المتحدة وتناهض التمييز. وأدهش حاكم واشنطن العالم كله عندما قام بتسمية الميدان الذي يتجمهر فيه المحتجون بميدان «حياة السود لها قيمة» Black Lives Matter Ave ، وتفعيلاً للتسمية قام موقع خرائط غوغل بتعريفه بالاسم نفسه، أي أن النخبة تؤكد أنه ليس فقط حياة السود لها قيمة، بل إن حياة الإنسان تساوي الكثير. لقد صار مقتل جورج فلويد أيقونة ثورة ضد التمييز في الولايات المتحدة والعالم الغربي، مثلما كان انتحار البوعزيزي أيقونة ثورات الربيع العربي. التساؤال الملح، لماذا أحدثت كلا الواقعتين هذا التأثيرالجلل، على الرغم من وجود أحداث أكثر بشاعة لم يكن لها صدى؟ الإجابة على هذا السؤال تتوقف على السياق ـ أو بمعنى آخر الظروف ـ الذي حدثت فيه الواقعتان. فمن المحتمل أن حادثة البو عزيزي، لم تكن لتلقى كل هذا الترحاب لو حدثت حالياً، وكذلك هو الحال بالنسبة لواقعة جورج فلويد، إذا لم يسلط الإعلام الضوء عليها، ويقف معها كظهير ونصير. فالتيار الشعبوي لن يصير مندوبا لازدهار الديمقراطية إذا لم يجد مساندة ومباركة من النخبة، التي مازالت بيدها القدرة على منحه الفرصة في التعبير عن نفسه ليجعل صوته مسموعا أو قمع صوته للأبد.
٭ كاتبة من مصر
لا ينفع التيار الشعبوي السلمي في التغيير ببلادنا العربية يا أستاذة!
فالإنقلابات العسكرية تبطش بالمتظاهرين كما حدث برابعة وغيرها!! ولا حول ولا قوة الا بالله