إسطنبول- “القدس العربي”: بالتزامن مع تصاعد التهديدات التركية بقرب إطلاق عملية عسكرية برية واسعة في شمال سوريا، عبّرت قيادات عسكرية وسياسية روسية رفيعة عن معارضتها لأي عملية عسكرية جديدة، وهو ما رد عليه مسؤولون أتراك بالتأكيد على أن بلادهم لا تنتظر إذناً من أحد “إذا تعلق الأمر بأمنها القومي”.
هذا السيناريو الذي تكرر مراراً قبيل العمليات العسكرية التركية السابقة في سوريا، أعاد طرح النقاش مجدداً حول الفرق بين انتظار تركيا الحصول على “إذن” رسمي من الجانبين الأمريكي والروسي للقيام بعملية عسكرية في سوريا، أو أن الأمر يتعلق بـ”إبلاغ” فقط في إطار آلية “الخط الساخن” الذي يهدف إلى التنسيق العسكري بين القوى الدولية العاملة في سوريا لمنع حصول اشتباك عسكري غير مقصود فيما بينها.
رسمياً، تؤكد تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ووزراء الخارجية والدفاع وغيرهم من كبار المسؤولين، على أن بلادهم “لم ولن تحصل على إذن من أحد” لتنفيذ عملياتها خارج الحدود، وخاصة “عندما يتعلق الأمر بالأمن القومي التركي”، مؤكدين أن الجيش يتحرك وفق الاحتياجات الأمنية.
عملياً، قبيل كافة العمليات العسكرية السابقة التي نفذها الجيش التركي في سوريا، كانت تجري مباحثات واسعة مع الجانبين الأمريكي والروسي بشكل خاص، وهو ما يجري حالياً بين أنقرة من جانب، وموسكو وواشنطن من جانب آخر، حيث تجري اتصالات مكوكية على المستويين السياسي والعسكري، وهي مباحثات تتركز حول خطط أنقرة للبدء بعملية عسكرية برية شمالي سوريا.
إلا أن هذه المباحثات والاتصالات يجري توصيفها بطرق مختلفة، حيث يطلق عليها البعض “محاولات تركية للحصول على ضوء أخضر” أو “الحصول على إذن”، في حين يطلق عليها الجانب التركي اتصالات لتهيئة الأجواء السياسية والعسكرية مع الحلفاء والقوى الدولية النشيطة في المنطقة، لمنع حصول صدام سياسي أو عسكري، وهي آلية أقرب لـ”الإبلاغ” بطبيعة ومكان وحدود العمليات العسكرية للجيش التركي لمنع إلحاق الضرر بقوات الدول الحليفة ومنع حصول صدام عسكري غير محسوب وغير مرغوب فيه.
وبحسب ما جرى قُبيل كافة العمليات العسكرية السابقة التي نفذها الجيش التركي في شمال سوريا، فإن الولايات المتحدة وروسيا كانتا تعارضان على الدوام أي تحرك عسكري تركي، حيث تعارض واشنطن أي عمليات ضد الوحدات الكردية حليفتها في سوريا، بينما تعارض موسكو أي عمليات عسكرية تعتبرها إضعافا لحليفها النظام السوري، وتعزيزا لانتشار قوات المعارضة، وتهديدا لـ”وحدة الأراضي السورية”.
لكن وفي أغلب الأوقات، كانت المباحثات تفضي إلى نتائج مختلفة يعتبرها البعض “ضوءا أخضر” فيما يصفها الجانب التركي “تراجعا وخضوعا للأمر الواقع” نتيجة الضغوط والحسابات الثنائية والدولية التي تجري في المفاوضات، وفي المجمل يكون الاتفاق على تجنب الصدام العسكري، حيث يرى محللون أن تركيا دائماً ما تكسب هذه الجولة انطلاقاً من استنادها على بعض القوانين الدولية وموقعها الجغرافي الملاصق لسوريا، وتصنيفها على أنها “عمليات لحماية أمنها القومي”. على العكس من القوات الأمريكية والروسية التي لا تدافع عن حدود لبلادها في المنطقة.
وفي مرات سابقة، نجحت تركيا بالفعل في فرض الأمر الواقع ميدانياً على الأرض في إطار اتصالات سياسية، حيث رفضت واشنطن بشكل قطعي أي تحرك عسكري تركي ضد الوحدات الكردية في شرق نهر الفرات شمالي سوريا، لكن الرئيس التركي هاتف نظيره الأمريكي آنذاك دونالد ترامب، وأبلغه بأن قواته ستبدأ خلال ساعات التحرك عسكرياً هناك لمنع حصول صدام عسكري، وهو ما أعقبه قرار من ترامب يقضي بسحب القوات الأمريكية من المنطقة على عجل، حيث نفذ الجيش التركي عملية نبع السلام التي سيطر خلالها على منطقتي تل أبيض ورأس العين.
وقبيل عملية غصن الزيتون أيضاً، أبلغت تركيا الجانب الروسي بأنها بصدد البدء بالتحرك عسكرياً هناك، وهو ما نتج عنه قرار روسي بسحب القوات الروسية التي كانت تنتشر في المنطقة، وسيطر الجيش التركي في العملية على منطقة عفرين دون حصول صدام مباشر مع الجانب الروسي الذي فضّل سحب قواته من المنطقة.
لكن وفي عمليات أخرى، كانت روسيا أشبه بطرف عسكري غير مباشر في العملية التي نفذها الجيش التركي ضد النظام السوري في إدلب “درع الربيع”، وهو ما أثبت وقتها أن تركيا تحركت بدون اتفاق مع روسيا التي كانت ترفض التحرك التركي، وهو ما ولد صداما عسكريا غير مباشر وخطير، كاد يتطور إلى صدام أخطر بين البلدين.
وعلى الأرض، توجد آلية تنسيق عسكري “خط ساخن” بين جيوش الدول العاملة في المنطقة، وخاصة الجيش التركي والروسي والأمريكي للتنسيق لمنع حصول أي صدام عسكري غير مقصود، ولا يتعلق الأمر بالحصول على إذن، بقدر ما يتعلق بالإبلاغ عن تحرك عسكري جوي أو بري، وهو آلية تقول تركيا إنها تطبقها عندما يتعلق الأمر بأمنها القومي وحاجتها لتنفيذ عملية عسكرية في سوريا.
وبموجب هذه الآلية، تمكنت الطائرات التركية قبل أيام من تنفيذ ضربات جوية واسعة ضد مقرات الوحدات الكردية في شمال سوريا، دون أن تعترضها المضادات الجوية الروسية والأمريكية المنتشرة في المنطقة.
ويمكن أن تضطر روسيا أو أمريكا لسحب قواتها من مناطق معينة في حال أقدم الجيش التركي على التحرك برياً نحو مناطق تتواجد فيها قوات روسية أو أمريكية.
ماذا لو كان الأمن القومي الأميركي هو الذي يتعرض للتمديد؟ هل سينتظر البيت الأبيض حتى يتباحث مع أطراف اخرى؟
ألم تكن حرب بوتين علي اوكرانيا سببها شعور روسيا بتهديد امنها القومي من جارتها و من اقتراب حلف شمال الأطلسي لحدودها؟
أصبح الكيل بمكاييل متعددة و ليس بمكياج واحد.