مثل الكثيرين من العرب وغيرهم أتابع الأحداث في وطننا العربي، لا زلتُ أستعمل كلمة (الوطن)، رغم أن وسائل الإعلام العربية، هجرت ذاك المصطلح، واستمرأت كلمة (العالم العربي). أستخدم كلمة الوطن لأن الكثير من الناس في بلادنا ليبيا، يستعملون كلمة وطن للإشارة الى مضارب هذه القبيلة أو تلك. يقولون (وطن…)، ويكون المضاف اليه، هو إسم القبيلة صاحبة الوطن. ولقد إستخدم العرب الاوائل كلمة الوطن بهذا المعنى، فإضافة القبيلة الى الوطن لا يقدح في قيمة أي منهما. بل النقيض هو التعبير الأكثر دقة. ففي وطن القبيلة، كل المشاعر مشتركة، مثلها مثل الكلأ والنار والماء، فكل الأفراح للجميع والأحزان كذلك. لامكان ولا مجال للتفرد أو الإختلاف. (الإتفاق) هو ميثاق القبيلة المقدس ومن شدّ، شدّ في الضلال.
هكذا، تكون إدارة القبيلة، وتسيير شؤونها، لا تصعب على الشيخ حتى لو كان صبياً أو كان بسيطاً أمياً. الإتفاق لا يحتاج إلى إدارة، الإختلاف هو ذلك (الهمُّ) الذي يتطلب الكثير الكثير من الألم والصداع والصبر. تلك هي لعنة ـ الديمقراطية ـ، فهي إدارة الإختلاف، أما الديكتاتورية، فهي فرض الإتفاق. اليوم في البلدان العربية التي تشهد ما أُطلق عليه الربيع، يعيد الناس إنتاج الوطن، الوطن الذي لا إختلاف فيه. الجميع يعمل في نفس المصنع ـ الإتفاق ـ . قد يكون المنتج في غلاف ديني أوغيره. نفس المصنع الذي كدَّس بضاعة (الإتفاق) في صناديق حملت علامات الثورة والقومية أوغيرها. إدارة الإختلاف، تقنية إنسانية معقدة، مركبة، كيمياء لايقدر عليها البسطاء والأميون. فرض الإتفاق هو الأسهل، لايحتاج إلاَّ لحفنة من الشعارات، وقطيع من رجال البوليس، او جماعات تعتقد أنها كتائب تجاهد من داخل الفرقة الوحيدة الناجية.
أتابعُ مثل غيري من العرب مفاوضات أبناء (الوطن) السوري، أحفاد معاوية، معاوية صاحب ـ الشعرة ـ التي لا تنقطع أبدآً، لها مرونة سحرية وساحرة، الشدُّ، والرخي . لم يكن معاوية بالطبع يمارس الديمقراطية عبر شعرته، بل كان يمارس ـ الواقعية ـ وهي فن يحتاج إلى ما هو في مستوى تعقيدات الديمقراطية. الفارق الأساسي أن الناس آنئذ، محدودو العلم وكذلك الطلبات والرغبات . من حمل معه شعرة معاوية الى جنيف؟ السيد الجربا أم السيد المعلم؟!. لا أعتقد أن معاوية بن أبي سفيان ملك الشام قد ترك شعراً، لقد مات بديناً مريضاً، أرهقته المعارك والصراعات في أرض الوطن وخارجه. تلاشت شعيرات رأسه السياسية . تفاوض مع أبناء غريمه علي بن أبي طالب بشعيرات الحديد والنار والسم والذهب، أليس فرض الإتفاق هو الأسهل، ومن شذَّ صار إلى الضلال؟. لو تبادل المتفاوضون المراكز والكراسي ماذا كان سيحدث؟. التفاوض يعني القبول بتنازلات من كل الاطراف، أهل ـ الوطن ـ يعتبرون التنازل خيانة، وإن كان التنازل لبني الوطن ومن أجل الوطن. من يتنازل لأهله ينتصر، مثل من يعطي بعض أو كل ما يملك لأولاده. التفاوض يعني إدارة الإختلاف، لايستطيعه من تربى على فرض الإتفاق. لو تنازلت الحكومة السورية فورا عن السلطة لمصلحة المعارضة، متى تستطيع هذه المعارضة أن تشكل حكومة؟
هل سيكون لسوريا رئيس جمهوررية خلال… سنة؟ ولو افترضنا أن المعارضة المسلحة وغير المسلحة أُصيبت بمس ـ الوطن ـ وأعلنت السمع والطاعة لبشار الأسد، هل سيقول هذا للجميع: عفا الله عما مضى إذهبوا فأنتم الطلقاء؟. بالتأكيد سيتساءل القارئ، إذن ما الحل؟ نعم، ما الحل؟ أنا أؤمن أنَّ خطأين لا يلدان صواباً.
أقول أن معاوية الموجود الآن في جنيف بلا شعر، هو أصلع، أصلع، المتفاوضون هم في حاجة الى شعرات من لون آخر، من لون أشقر.
ليس بالضرورة أن تلك الشعيرات من حديد، لا، نريدها شعرات عقل وسياسة، مثل شعرة الإمبراطور معاوية الأول، إمبراطور (الوطن).
‘ كاتب وسياسي ليبي
قال الإمام علي عليه السلام “اسد حطوم خير من سلطان ظلوم و سلطان ظلوم خير من فتن تدوم”
(بحارالانوار الجامعه لعلوم الائمه الاطهار، الطبعه الثالثه، دار احیاء التراث العربى، بیروت، 1403 ق. ج 75، ص 359. )