معبد غروسمان وكنيست نتنياهو

حجم الخط
0

سارعت صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية إلى ترجمة مقالة كان الروائي الإسرائيلي دافيد غروسمان قد نشرها بالعبرية في صحيفة «هآرتس»، وحملت العنوان الدراماتيكي: «هذا الأسبوع سوف يتقرر مصير إسرائيل كدولة ديمقراطية»؛ في إشارة إلى تظاهرات الاحتجاج العارمة التي عمّت تل أبيب والقدس المحتلة، ضدّ التعديلات القضائية التي يزمع ائتلاف بنيامين نتنياهو تمريرها تباعاً عبر الكنيست. وكتب غروسمان: «العملية التي تحدث الآن تظهر الآلية المعقدة لخداع الذات والوهم وغسل الأدمغة التي مررنا بها لمنع اندلاع كل هذه الأمور طوال 75 سنة. كيف تعلمنا إخفاءها عن أنفسنا، وتبييضها وترويضها وتدجينها»؛ وأيضاً: «نقف الآن دون أي حماية أمام هذه الافتراءات والأكاذيب التي اقتحمت واقعنا المكشوف فجأة، لأن الأرض تتهاوى تحت أقدامنا، هناك خوف كبير يحيط بنا الآن».
لسطورٍ أخرى أن تتذكر غروسمان بوصفه داعية سلام مع الفلسطينيين، وصاحب الكتاب الشهير «الريح الصفراء» الذي يظلّ بين أبكر المؤلفات الإسرائيلية، القليلة النادرة، التي حاولت تسليط الضوء على حياة الفلسطينيين في الضفة الغربية والقطاع، تحت الاحتلال. هذه السطور، في المقابل، تتذكر كلمات غروسمان في رثاء ابنه أوري، 20 سنة، القتيل خلال الاجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان، 2006: «لقد كان أوري يمثّل جوهر الصفة الإسرائيلية [في الترجمة الإنكليزيةIsraeli-ness ] كما أودّ لها أن تكون. صفة إسرائيلية يكاد يطويها النسيان، حتى صارت أمراً مثيراً للفضول. وكان إسرائيلياً طافحاً بالقِيَم، وهي كلمة تآكلت فباتت مضحكة في السنوات الأخيرة. ففي عالمنا المجنون العابث القاسي، ليس رائجاً أن تكون حامل قِيَم، أو إنسانيّ النزعة، أو متحسساً بحقّ لمعاناة الآخر، حتى إذا كان ذلك الآخر هو عدوّك في ساحة القتال».
لكن من الصعب، وربما من المتعذر تماماً، أن يفهم المرء طبيعة «القِيَم» التي جاء أوري غروسمان يبشّر بها في مارون الراس وعيترون وبنت جبيل وعيتا الشعب، من على ظهر دبابة الـ «ميركافا»؛ أو، استطراداً، إذا كان الفتى يمثّل تلك الجوهرانية الإسرائيلية التي يحلم بها داعية السلام غروسمان الأب، فما الذي منعه من العصيان ورفض التجنّد في جيش غازٍ ومحتلّ، كما فعل أقران له رفضوا الخدمة الإلزامية عموماً، أو الخدمة في الضفة والقطاع على الأقلّ؟ سياق آخر، سابق وغير عائلي هذه المرّة، تمثّل في موقف غروسمان من قرار ليا رابين، أرملة إسحق رابين، مغادرة «إسرائيل، هذا البلد المجنون» كما عبّرت؛ صبيحة تقدُّم بنيامين نتنياهو على شمعون بيريس، في انتخابات 1996. غروسمان تساءل آنذاك: «سوف تمكث ليا، وسنمكث جميعاً، إذ ليس لنا من وطن آخر، ولأنّ إسرائيل بحاجة إلينا في هذا الزمن».
ولأنّ غروسمان كاتب وروائي، قد يصحّ استذكار مواقفه في سياق ثالث، أدبي وبحثي هذه المرّة؛ كما في كتابه «عسل الأسد»، الذي يتناول شخصية شمشون من زوايا عديدة جديدة، ومختلفة عن المألوف، ولعلها مخالفة للتنميط الراسخ في التوراة. إنه أقرب إلى أوديب التراجيدي صريع الأقدار المحتومة المكتوبة سلفاً، منه إلى رجل الخوارق الجبّار الذي انتزع العسل من جوف الأسد، وأعمل في أهل غزّة بطشاً، وأحرق أكداسهم وزروعهم وكرومهم. وغروسمان يبرع تماماً في التفكيك النفسي لشخصية شمشون، من خلال تحليل متأنٍ مستفيض لخطّ صراعه المركزي بين المصير المسطّر سلفاً، والمسار الذي تختطه الأهواء الذاتية والوقائع القاهرة.
ولا يفوت غروسمان أن يتوقف مراراً عند كلّ تفصيل توراتي يمكن أن يُقرأ على نحو مختلف أو مخالف، فيحمل قسطاً من الدلالة حول الراهن، ولكنه يعفّ مراراً وتكراراً عن إعادة قراءة الشخصية التوراتية تحت عدسة مكبّرة تُظهر «الآلية المعقدة لخداع الذات والوهم وغسل الأدمغة»، من طراز مماثل لما تطلع إليه بعد 17 سنة، حين أخذ يتأمل دلالات خروج الآلاف من الإسرائيليين إلى شوارع تل أبيب والقدس. كذلك كان في وسعه، هو المتباكي على انحسار القيم، أن يذكر من باب العلم بالشيء على الأقل أنّ بعثة البروفيسور أرين مئير، من جامعة بار إيلان الإسرائيلية، أسقطت الكثير من الشكوك على الواقعة التوراتية المركزية التي أحالت شمشون إلى بطل عبراني قومي.
فالبعثة عثرت بالفعل على معبد فلسطيني قرب تلّ الصافي (تيل زافيت، كما سمّته دولة الاحتلال بعد تطهيره عرقياً من الفلسطينيين، صيف 1948)، يعود إلى الأحقاب التوراتية، شبيه بالمعبد الذي تصفه الحكاية، ولكن مع فوارق كبرى: الموقع ليس في غزّة، ولا على مقربة منها؛ والمعبد لم يتهدّم بسواعد بشرية بل نتيجة زلزال هائل، قوّته 8 درجات في مقياس ريختر، ضرب المنطقة قبل 900 سنة للميلاد! وهكذا وجد مئير نفسه مضطراً، وهو أحد غلاة الباحثين عن إسناد وقائع التوراة اعتماداً على الآثار، إلى التسليم بأنّ هذا المعبد الجديد يلقي المزيد من الشكّ على حكاية تهديم معبد غزّة؛ الذي لم تقع عليه عين، بعدُ، في كلّ حال.
والأرجح، بالطبع، أنّ غروسمان لن يحملق في جموع الإسرائيليين الساخطين أمام الكنيست، باحثاً عن شمشون معاصر يستخرج عسل الجوهرانية الإسرائيلية؛ ومن غير المرجح أنه سيغادر «البلد المجنون»، إذْ إلى أين سيذهب؟ ولماذا، في الأصل؟

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية