رجل يضرب رأس فيل كل نصف ساعة، وموسيقيون يعزفون، وماء يخرج من فم طاووس لغسل اليدين، ونافورات تعمل في أوقات معينة بشكل مبرمج، كل هذا كان في العصور الوسطى، وبالتحديد في القرنين الثاني عشر والثالث عشر.
قد يعتقد المرء أن هذا الوصف مأخوذ من أحد أفلام هوليوود الخيالية عن العصور الوسطى، ولكنه في الواقع حقيقي، حيث لم يكن الرجل والفيل والموسيقيون سوى آلات، أو في الأحرى روبوتات من اختراعات العالم العربي إسماعيل الجَزَري، الذي يعد أعظم مهندسي العصور الوسطى في العالم، ومؤسس علم الروبوتات، ونقطة تحول في تطور العلوم بشكل عام والهندسة الميكانيكية بشكل خاص، حتى أن مجلة National Geographic الأمريكية وصفت الموسوعي والفنان ليوناردودا فنشي بأنه «جزري الغرب».
ولكن ما هو الروبوت، ومن أين جاءت هذه الكلمة أصلا؟ تشير الكلمة إلى ماكنة تعمل بشكل مستقل عن الإنسان حسب برنامج وضع لها، ومصممة للقيام بمهمة معينة. وعلى الرغم من اعتقاد الكثيرين أن الروبوت، يشبه الإنسان في مظهره، فإن مظهر الروبـــوت، في الحقيقة تحدده المهمة التي صمم لتنفيذها، ولذلك فإنه عـــادة أبعد ما يكون عن شكل الإنسان. واستعملت كلمة روبـــوت للمرة ألأولى في كنائس سلوفينيا، وكانت تعني «السخــــرة» قبل أن تدخـــل بقية اللغات الأوروبية، ولكن بداية شهــــرة الكلمة كانـــت عندما ظهرت في مسرحية شهيرة تشيكية عام 1921 واقتبسها الألمان، حيث أصبحت جزءا من اللغة الألمانية، ومنها كانت نقطة انطلاق هذه الكلمة لتدخل بقية اللغات. وانتشرت كلمة روبوت في القرن العشرين، وبشكل متزايد مع تزايد وتيرة التقدم العلمي، ويشهد العالم الآن تسابقا شرسا بين مختلف دول العالم للتفوق في هذا المجال.
لعبت الروبوتات دورا مهما في مخيلة الحضارات القديمة، وادعى البعض في اليونان القديمة النجاح في صناعة روبوتات على شكل إنسان، ولكننا لا نستطيع أن نأخذ هذه الادعاءات مأخذ الجد. ولكن أولى المحاولات الجدية كانت نتيجة لجهود علماء عرب في القرن الثاني عشر، وعلى الأخص العالم العربي الفذ إسماعيل الجَزَري، إذ كان الوحيد الذي حقق إنجازا حقيقيا ووصف اختراعاته وصفا دقيقا برسوم هندسية متقنة ومصحوبة بشرح واف لكيفية عملها. واستطاع مهندسو القرن العشرين إعادة صناعة اختراعاته وأثبتوا نجاحها في التطبيق، كما ذكر المخترع الكبير. وهو بذلك تفوق على ليوناردو دافنشي» الذي ظهر بعده بمئتين وخمسين سنة وتأثر به. ولكن، على عكس اختراعات الجزري، فإن اختراعات دافنشي الشهيرة لم تعمل عندما حاول العلماء الحاليين إعادة صناعتها، وبقيت عبارة عن تصاميم مثيرة للاهتمام على الورق. ولكل هذه الأسباب يعتبر العلماء والمؤرخون الحاليون الجزري مؤسس علم الروبوتات.
من هو إسماعيل الجزري
اسمه الكامل، بادئ الزمان أبو العز بن إسماعيل بن الرزاز الجزري، ولم يذكر أي مصدر مكان ولادته، ولكن المؤرخين يجمعون على أنه ولد في مكان ما في شمال العراق عام 1136. ويعود أصل تسميته بالجزري كون منطقة مولده تسمى الجزيرة، وهي المنطقة المحصورة بين نهري دجلة والفرات في شمال العراق. وما تزال المنطقة الواقعة في شمال بغداد الممتدة إلى الحدود التركية تسمى بهذا الاسم. وكان مولده في فترة عصفت الاضطرابات فيها في العالم العربي بسبب الصراعات الداخلية، التي ساهمت فيها قوى دخلت المنطقة حديثا. وعمل الجزري مهندسا لدى الحكام المحليين، لتصميم وصناعة آلات استعملها هؤلاء الحكام المحليون للترفيه، ما يدل على أن الاضطرابات الإقليمية لم تؤثر في منطقتهم بشكل ملموس، فتميزت منطقتهم بمستوى عال من الاستقرار والرفاه المالي، ولفترة طويلة، حيث استمر العالم الكبير في عمله لمدة خمسة وعشرين عاما على الأقل.
كان الجزري أكثر من مجرد مهندس اختص بالتصميم، حيث كان يقوم بصناعة الأجهزة التي يصممها بنفسه. وإذا أخذنا بنظر الاعتبار النتائج المذهلة لعمله، فإن هذا يدل على إلمام غير عادي في المجالين النظري والعملي. وكان يمتلك مهارات تسويقية غير عادية أيضا، حيث عرف كيف يدهش باختراعاته الأثرياء، الذين كانوا مصدر رزقه، فالكثير منها كان عبارة عن ألعاب للأثرياء. ومع ذلك، فقد أضاف الجزري الكثير من الاختراعات لأغراض عملية، وذات أهمية اقتصادية عظيمة، بالإضافة إلى أعمال كانت نتيجة فضوله العلمي فقط، ويدل هذا على مستوى رفيع في التفكير العلمي.
ترك الجَزَري لنا معلومات كاملة عن عمله في كتابه المعنون «الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل» الذي ألفه عام 1206 شاملا التصاميم التي قام بها، مع شرح مفصل لكل منها. وبدا هذا الكتاب وكأنه كتاب مدرسي لطلاب جامعة، كي يستطيعوا التعلم منه، وتطوير اختراعاته لاستعمالها في مجالات عديدة، وبيّن كذلك ولع الجزري بالتدوين الدقيق، لكل اختراعاته التي بلغت المئة. ولكن الكتاب كان أكثر من إعجاز علمي، حيث كان كذلك تحفة فنية، فقد تميزت رسومه بدقة متناهية، ولمحات فنية واضحة، تمتع القارئ وتجذبه لمتابعة المعلومات الهائلة فيه. وتحمل جميع الرسوم سمات واضحة مأخوذة من مدرسة بغداد للرسم، التي كانت في أوجها في تلك الفترة، وهي المدرسة الفنية، التي أصبحت في ما بعد أهم سمات الفنون المغولية والعثمانية والهندية. ولم تكن النصوص المكتوبة لتفسير الرسوم الهندسية الرائعة أقل إثارة للاهتمام، حيث أنها مكتوبة بلغة عربية جميلة وبسيطة، وكأنها موجهة للقارئ غير المختص.
يعد الكتاب كذلك المصدر الوحيد عن حياة الجزري، التي لا يُعرف عنها الكثير. وكل هذا يجعل كتابه، الكتاب الأهم عالميا في مجال الهندسة في فترة العصور الوسطى، وقد توفي الجزري بعد أن أنهى كتابه المهم بعدة أشهرعام 1206.
إذا كانت العصور الوسطى تسمى بالعصور المظلمة، فإنها كانت مظلمة في أوروبا فقط، حيث لم تتباطأ وتيرة التقدم العلمي في العالم، نظرا لاستمرار العرب في المضي قدما في مسيرتهم العلمية. وإذا كانت الشمس قد غابت في أوروبا في تلك الفترة، فإنها كانت مشرقة في العالم العربي الذي كانت بغداد عاصمة حضارته.
اختراعات الجزري
لم يحاول الجزري اختراع أشياء جديدة فقط، بل حاول كذلك تحسين ما اخترعه من جاء قبله، وكان حريصا على ذكر ذلك بكل وضوح، حيث ذكر بإسهاب تأثره بما قدمته الحضارات السابقة. ولذلك، فإن الأمثلة لأعمال الجزري كثيرة جدا، ولكن ما ميز أغلبها أنها كانت تستمد الطاقة من حركة المياه، وكانت منها إنجازات كبيرة لمساعدة المزارعين والسكان، عن طريق رفع مستوى المياه وإرواء مزارعهم، حيث كان أحد أكثر من طور صناعة المضخات المائية، واخترع أنواعا منها. وكان أحد أكثر اختراعاته إثارة روبوتا غريبا عمل كساعة مائية كبيرة على شكل فيل، يقوده رجل هندي ويعلو الفيل برج صغير يقف عليه طائر، فكل نصف ساعة يغرد الطير وتبدأ الآلة بالعمل بشكل مثير للاهتمام، حيث تنتهي بضرب الرجل الهندي رأس الفيل معلنا مرور نصف ساعة. وقد جعل الجزري قائد الفيل هنديا، كما ترك علامات صينية على الساعة، لجعلها أجمل وأكثر إثارة للانتباه. ولم يكن ذلك الروبوت الوحيد للجزري بالطبع، فقد قام بصناعة أربعة روبوتات لموسيقيين، عازف للناي وعازف للقيثار (Harp) واثنين من قارعي الطبول على قارب. وكان بالإمكان تغيير لحن الطبالين عن طريق البرمجة. ولكننا يجب أن نتذكر دائما أن بعض أهم الاختراعات التي يستعملها المرء كل يوم حتى الآن كانت من اختراعات الجزري مثل، «العمود المرفقي» (Crank Shaft)، وهو عمود دوار يقوم (بالاقتران مع قضبان التوصيل) بتحويل الحركة الترددية للمكابس إلى حركة دورانية. وتستخدم حاليا وبشكل شائع في محركات الاحتراق الداخلي. وكان الجزري قد دمج العمود المرفقي مع مجموعة من المضخات المائية، التي اخترعها بنفسه لصناعة نظام متكامل ومعقد لرفع مستوى الماء ونقله لمسافات طويلة لإرواء المزارع.
ومن اختراعاته كذلك تلك التي ما تزال تستعمل يوميا حتى الآن من قبل الجميع، ألا وهو «السيفون» الذي نجده في الحمام، حيث لم يتغير كثيرا منذ أن صنع الجزري النموذج الأول منه، ولكنه لم يستعمله للأغراض المعروفة الآن، بل لغسل اليدين. وقام بتطوير الأقفال والبوصلة المستعملة في الأعمال العسكرية، والصمامات المخروطية، وصناعة القوالب المعدنية. ولا يسمح المجال هنا لذكر أشياء أخرى كثيرة اخترعها هذا العالم الفنان.
كان لكتاب الجزري تأثير كبير على معاصريه، كما كان إثباتا لحقيقة اختراعاته، حيث أتاح شرحه الوافي ورسومه التي جمعت بين الهندسة والفن الفرصة للآخرين للتعلم منه، وجعلتنا قادرين اليوم على إعادة تطبيق اختراعاته. وجعل هذا الجزري جزءا من التاريخ العالمي، ومختلفا عن المبالغات التي ذكرها بعض المؤرخين، حول ابتكارات القدماء التي كانت أقرب إلى الخيال منها إلى الواقع. وكان لاختراعاته المتعلقة بالتزود بالماء، أثر بالغ في الزراعة والمدن في عهده.
الجزري وبيئته العلمية
لم يكن الجزري شمعة في عالم مظلم، كما قد يعتقد البعض، بل نشأ في أكثر المناطق تقدما علميا وثقافيا في العالم، وكان مركز هذا التقدم العاصمة العباسية بغداد. وكانت الحضارة العربية في العصور الوسطى سبّاقة في تقديم اختراعات عدة قد لا تخطر على بال القارئ، مثل الطوربيد الذي كان أول من صممه العلماء العرب. وقد أعيد صنع ذلك الطوربيد البسيط وأثبت نجاحه. وفي مجال البناء نرى مثلا القلاع التي بناها الصليبيون التي تختلف عن القلاع الأوروبية، لأنها كانت مقتبسة من القلاع العربية، بالإضافة إلى الإنجازات الكبيرة في مجالات الرسم والفلسفة والرياضــــيات والموســــيقى. وقام العرب بتطوير اختراعات أخرى من إنتاج حضارات سابقة مثل، البارود الذي كان الصينيون أول من اخترعه، حيث كان البارود العربي أكثر نعومة وأكثر فعالية. وإذا كان كتاب الجزري، قد أثار دهشة وإعجاب الجميع، فقد كان جزءا صغيرا مما تركه العرب من الآثار العلمية، حيث يقدر عدد المخطوطات العربية الموجودة في مكتبات العالم، التي لم يتم الاطلاع عليها بعد، بالآلاف.
اختفى الجزري من الإعلام العربي لأسباب مجهولة، إذ أن أغلبية المصادر التي تكلمت عنه بأسهاب غربية. وقد تمت ترجمة كتابه الشهير عام 1974 إلى اللغة الإنكليزية في بريطانيا، ومثّل دوره ببراعة الممثل البريطاني بن كنغزلي، في فيلم وثائقي عام 2010 بعنوان «ألف ومئة اختراع ومكتبة الأسرار»، كما أننا نجد نماذج جديدة لاختراعاته، في عدة أماكن حول العالم مثل جامعة فرانكفورت الألمانية. وقد أكد المؤرخون الغربيون أن اختراعات الجزري، كانت مصدرا، أكثر من المنجزات التكنولوجية التي ميزت التقدم العلمي الأوروبي في العصور الحديثة التي توصلت إلى مستواه العلمي بعد مضي أكثر من مئتي عام بعد وفاته.
إذا كانت العصور الوسطى تسمى بالعصور المظلمة، فإنها كانت مظلمة في أوروبا فقط، حيث لم تتباطأ وتيرة التقدم العلمي في العالم، نظرا لاستمرار العرب في المضي قدما في مسيرتهم العلمية. وإذا كانت الشمس قد غابت في أوروبا في تلك الفترة، فإنها كانت مشرقة في العالم العربي الذي كانت بغداد عاصمة حضارته.
٭ باحث ومؤرخ من العراق
انه عالم مسلم كردي من جزيرة لو كان (ابن عمر)..
جزيرة بوطان جزيرة بوطان (ابن عمر) هي بلدةٌ في محافظة شرناق التركيّة الواقعة في المنطقة الجنوبيّة من شرق الأناضول، وتقع قرب الحدود السوريّة والعراقيّة، وغالبيّة سكانها من الأشوريين السريان، والكرد إضافةً للعرب، يحيط بها نهر دجلة من الجنوب والشرق والشمال، ولهذا السبب أطلق عليها اسم جزيرة. تسمية الجزيرة أطلق الأتراك على الجزيرة اسم جِزرة، أمّا السريان فقد سموها جزرتا، ومفردها جزر أي المقطوع لكونها منطقةً بعيدة ونائية عن مدن الجوار.
شكرا لك على تذكيرنا باسماعيل الجزري الانسان العبقري العظيم
رحمه الله وجزاه عنا خيرا
الانسانيه اليوم بامس الحاجه لتحرير الطاقه من الاحتكار
وفي نفس الوقت بامس الحاجه لان تكون نظيفه وصديقه للبيئه
..
اعتقد بان هناك امكانية للحصول عليها بطرق ميكانيكيه ايضا
النهضة تبدأ بفكرة ثم تمر إلى مرحلة التنفيذ لكن قبل أن تكون فكرة يجب أن يسبقها عمل ضخم في مجال توعية المجتمع و ذلك بخلق جو من الإقتناع الفكري بإمكانية قدرة المجتمع في النهوض بالحضارة رغم تعقيداتها و مهما كانت صعوبتها ،، و يتم ذلك من خلال عاملين إثنين الأول هو الترجمة كما حدث في عصر هارون الرشيد حيث تُرجمت أمهات الكتب من جميع اللغات إلى اللغة العربية و تكرر أيضاً في بداية النهضة الأوروبية حيث تُرجمت كتب الحضارة العربية إلى اللغات اللاتينية ، و العامل الثاني وهو الأهم في خلق هذا الإقتناع الفكري بكثرة تناول المواضيع الهادفة مثل هذا المقال التي تسّلط فيه الضوء على إختراعات علماء الإسلام السابقون ، على أساس مبدأ إنهيار الحضارات الإنسانية وإعادة إنبعاثها من جديد حسب رأي مالك بن نبي و إبن خلدون وأرنولد توينبي و ويل ديورانت وآخرون ،،
يتبع ..
لكن هناك مؤشر سلبي في العالم الإسلامي يوحي بعدم توفر مناخ مناسب لصنع هذا الوعي الذي يمثل البوابة الرئيسية و الوحيدة للإنطلاق في مرحلة بناء الحضارة وهو الحوار والنقاش المكثف والمستمر بين أفراد المجتمع و على سبيل المثال لا الحصر عدد التعقيبات من طرف القراء على هذا الموضوع الذي لم يتعدى تعليقان إثنان فقط بعد مرور يوم كامل رغم ما يمثله من أهمية في حياة المجتمع الإسلامي ، هذا ما يدل على قلة الإهتمام . في حين نجده يتجاوز المائة تعليق في مواضيع أخرى أقل أهمية !! . الشكر الجزيل موصول لك الأستاذ زيد خلدون جميل . ولكل من يتناول مثل هذه المواضيع ذات الصبغة العلمية و الأدبية و الإجتماعية الهامة في إعادة إحياء الحضارة الإسلامية من جديد .