لا أذكر من كان صاحب الفكرة بتعليمه كتابة اسمه، أظنها أمي، وربما تولت هذه المهمة الحماسية قبل ولادتنا، لتوفر عليه إحراج القول «لا أجيد الكتابة»، وتجنيبه عناء استخدام البصمة للتوقيع مع ما يرافقها من إجراءات كطلب شهود وما إلى ذلك. مع كامل اليقين أن شيئا كهذا أبعد ما يمكن عن إحراجه، هذا الممتلئ بالكثير لن تحرجه مجموعة حروف ضلت الطريق إلى يده.
يكفي أنه كان قادرا على نظمها شفهيا وإظهارها بألطف ما يمكن وتوظيفها في مكانها في كامل الرقي، وتقديرها أحسن تقدير فلا ينطق منها إلا بالقليل المفيد.
إذن اتُخذ القرار بضرورة تعليمه كتابة اسمه، كان طمعنا بنتائج أكبر، لكنه ضحك طيلة الحصص فلم نحصل على أكثر من «راجح».
النتيجة جيدة وكافية لشخص أُمي، طوع أربعة أحرف وسيوقع باسمه الجميل في أي دائرة أو مصرف. هذا نجاح وإنجاز بحد ذاته أن يظهر الاسم بعد جهد اليد الثقيلة التي اعتادت خشونة الصخر حتى صارت نعومة القلم ثقيلة على الأصابع.
أذكر أصابعه جيداً، كان يرفع يديه ويديرها بتباه محبب وضحكة طفولية ليثبت أنها مستقيمة كالألف، حين أقول لهما، هو وأمي، في أصابعي اعوجاج، ممن ورثته؟! كان يعرف شكل الألف إذن. لا يهم كم سيستغرق من الوقت وهو يزخرف إمضاءه العظيم، ولن نعرف إن كان من يطلب التوقيع سيتأفف في انتظاره، براءتنا كأطفال لم تحثنا على التفكير بذلك. من يأبه أصلاً لكل ذلك طالما صار يكتب! تبدل الحال عندما كبرت، لم يعد أمرٌ أستطيع تجاهله، شردت في وجوه كثيرة أثناء عملي وابتسمت لكبار السن وانتظرتهم دون تأفف، ولم أستعجلهم، من يعلم ربما تعلموا حديثا كتابة اسمهم مثل أبي! حصص محو أمية والدي لم تكن كثيرة ولا مكثفة، كثرة الطباخين تفسد الطبخة، وكنا خمسة معلمين بإشراف والدتي، لكل أستاذ رأيه ونظرته، ولنا كلنا ضحكات ترن في البال. كم كان خفيف الظل وواثقا ومتصالحاً مع نفسه، من مثله يسلم يده لأستاذ يبلغ من العمر سبع سنوات بطيب خاطر ويتوج سلوكه هذا بفخرٍ يعرف الجميع سببه؟ ألتمس مشاعر سامية وأفكار عديدة تجول في باله وهو يترك يده بين أيدينا أهمها أنه مرتاح الضمير لأنه أعطانا فرصة التعليم التي حرم منها في صغره. مع ظهور مخطط «راجح» على الورقة ـ خريطة عمري في ما بعد ـ انتفت صفة الأمي عن أبي! أُمي، كانت أول مفردة أشك في معناها الحقيقي، وبداية رحلتي مع عمق المفردات وعمق الحقائق. كيف يكون مَن مثله أمياً؟ كيف يسمى من يحفظ مئات القصص، ومن يؤرخ مئات الأحداث أميا؟ كيف يكون مَن ينظم عشرات القصائد على بساطتها أميا. كيف يكون من يصنع نصاً متينًا شفهيا أميا؟ فيبدأ بمقدمة كتمهيد لما سيقول، ثم يكمل بصلب الموضوع مع الشرح اللازم والمقتضب، يقدم المعطيات بمنطق فطري مصقول في ما بعد بتجارب الحياة القاسية دائما ـ ربما عرفناه نحن في أبهى حلل حياته ـ قد يقدم رأيه إن لزم الأمر
ويختتم بالفكرة التي يريد إيصالها، غالبا ما تكون حكمةً زوادة لأيامنا المقبلة .
راجح لم يغب يوما، ليس لاقتران اسمي باسمه فقط، هو الحاضر في كل موقف ونقيضه، لكن طيفه حضر بشدة في الأيام المنصرمة بعد الزلزال في سوريا وتركيا. أسمع حشرجة صوته والغصة الخانقة في حديثه عن المأساة. أراه ينحني في قعدته ودموع غالية في عينيه، يحكي بقلبه الطيب عن ناجين في ظروف عجائبية كطفل رضيع عُثر عليه بعد خمسة أيام على قيد الحياة، أو ولادة تحت الأنقاض، يسبح الخالق، أجزم أنه سيقول ما أكرمك يا الله عدة مرات، لم يكن ليتبنى نظرية غضب الله، الله غفور رحيم، سيصغي لنشرات الأخبار ويلتفت باستهجان لوثائقي يشرح كيفية حصول الزلازل. وربما لفرط تأثره كان سيصمت. يعود لصمته الطويل تاركا الأحاديث الصاخبة لاسمه. لم أتعلم اللغة منه، وإنما حتما علمني آدابها، تلك الآداب التي تعجز في الكثير من الأحيان الكتب عن تقديمها. حروفه غير مخصصة لألفاظ بذيئة، ولا تصلح في أحاديث سطحية وهي معصومة عن استخدامات النميمة، أو ذكر العيوب أو الذم في غير موقعه. حروفه مهذبة، متواضعة، بسيطة، حكيمة، مثله، حروفنا دائما تشبهنا على أي حال.
علمناه كتابة كلمة صغيرة هي اسمه واحتفظنا بالاسم والعالم الكامل المنطوي فيه.
كاتبة من لبنان
نصّ جميل مُجيد؛ فيه من النجود جود؛ ومن شهلاء؛ العسل الشهد.هذه أوّل مرّة أقرأ لحضرتك يانجود…فلا تتأخّري عن التواصل المنشود.فجريدة القدس حديقة أزهار ملوّنة؛ تجذب إليها النحل المنتج للعسل اللذيذ والشهد.
يسرّني رأيكم ويعني لي الكثير أن يصل هذا النص إلى القلوب لأن منبعه القلب حتمًا.شكرًا وعلى أمل مشاركات جديدة.