القاهرة ـ «القدس العربي»: كان تمثال الملك المهيب يتحرك بين الحشود، راحلاً عن الميدان الذي حمل اسمه لأكثر من نصف قرن. كانت عدسات التصوير منتشرة بين مصريين وأجانب، محترفين وهواة، لتسجيل الحدث الأعظم، بدون أن يخلو المشهد من إعلاميين مُجبرين، ومتأسلمين يضحكون وقد تخلص الميدان أخيراً من الأصنام، خاصة (هو) المغضوب عليه حسب مرجعياتهم الدينية. وبخلاف هؤلاء كان الصمت يخيّم على فئة من المخاليق، أكثر تأثراً من علماء آثار متأنقين، مجموعة من الباعة الجائلين لطالما أحاطوا بالتمثال، سواء للعمل أو لفترة من فترات الراحة القليلة في يومهم من مطاردة رجال الشرطة الدؤوبة لهم أكثر من صلاة. هناك حالة من تذكّر أحداث لن تُمحى، فكم من مرّة تواعد البعض عند التمثال، وكم من مرّة دارت أحاديث العتاب والخصام والهجر، بدون نسيان المشاجرات التي سالت فيها الدماء. شباب ورجال ونساء متشحات بالسواد، وجوم طال وجوه الرجال والشباب، أما النساء فلم يستطعن التغلب على دموعهن، وكأنهن يشيّعن عزيزاً غالياً، حتى أن امرأة خرجت كلماتها مختنقة بنهنهاتها قائلة: «وإن شاء الله الميدان هيبقى اسمه إيه؟». فردّ أحد الشباب وهو ينفث دخان سيجارته في حزن: «برضو هيبقى ميدان رمسيس».
تحت هذا العنوان، جاء المعرض الذي أقامه مؤخراً مركز التحرير الثقافي بالتعاون مع مكتبة الكتب النادرة والمجموعات الخاصة في الجامعة الأمريكية في القاهرة. ومن خلال الصور الفوتوغرافية والكاريكاتير، ولقطات من أفلام سينمائية ــ أشهرها باب الحديد ــ يتم استعراض تاريخ اكتشاف تمثال رمسيس الثاني، ورحلاته التي تعددت، مستقراً لأكثر من نصف قرن في ميدان (باب الحديد) الذي حمل اسمه ولم يزل حتى الآن، رغم رحيل التمثال عنه عام 2006. هذه التصاوير وما تجترها من أحداث توضح مدى تأثير فرعون مصر في نفوس المصريين، سواء من خلال وعيهم أو بدون حتى هذا الوعي. الاسم الذي يتكرر على ألسنتهم أكثر من أي حاكم مصري آخر. يستعرض المعرض رحلات الملك بداية من اكتشاف تمثاله في قرية ميت رهينة في محافظة الجيزة، إلى ميدان باب الحديد، ثم نقله من الميدان إلى المتحف الكبير، وصولاً إلى نقله إلى (البهو الرئيسي) للمتحف، حتى يكون في استقبال الزائرين.
أساطير كثيرة تدور حول رمسيس الثاني، أو رمسيس الأكبر، الفرعون الثالث من حكام الأسرة التاسعة عشرة، الذي حكم مصر في الفترة من (1279 – 1213 ق.م). تولى رمسيس الحكم بعد وفاة والده سيتي الأول، وكان عمره على الأرجح أقل من 25 عاما.
على بعد 25 كم من مدينة الجيزة، وعند أطلال مدينة منف، تقع قرية ميت رهينة. هنا اكتشف الإيطالي جيوفاني باتيستا كافليليا عام 1820 تمثال الملك رمسيس الثاني والمصنوع من الجرانيت الوردي، حيث يبلغ وزنه نحو 60 طنا، وطوله 11 متراً، وكان التمثال وقت الاكتشاف مقسماً إلى 6 أجزاء، مع فقدان للمنطقة أعلى الرأس وأسفل التاج والقدمين وكسر في الساق اليمنى. جاء نقل التمثال إلى محطة باب الحديد في مارس/آذار 1955. وتمت عملية نقل التمثال على حالته الراقدة على سيارة نقل، وحملت سيارات أخرى الأجزاء المتبقية من التمثال، وتمت إقامة التمثال في ميدان باب الحديد، وترميمه عن طريق تركيب أسياخ حديدية داخل جسم التمثال وإقامته على قاعدة يبلغ طولها نحو ثلاثة أمتار، حيث تولى المُرمم المصري أحمد عثمان مهمة تجميع أجزاء التمثال واستكمال الأجزاء الناقصة وترميم التاج الملكي. وبعد إقامته، تم تغيير اسم الميدان إلى (ميدان رمسيس).
هذه هي الرحلة الثانية للتمثال، فقد نحته المصري القديم في محاجر أسوان منذ حوالى 3000 عام، حيث تم نقله إلى منطقة ميت رهينة، ثم ميدان رمسيس، ثم المتحف المصري، وأخيراً بهو المتحف بعد اكتمال إنشاءاته. أما الرحلة الأهم في حياة التمثال وحياة المصريين، فهي رحلة مغادرته ميدانه الشهير. ورغم ما قيل وقتها عن سبب النقل، من أن نسبة التلوث تؤثر على صحة التمثال، وهو أمر مستبعد على دولة مثل مصر، إلا أن الذي تسرّب وقتها أو شاع هو فكرة إخلاء ميدان رمسيس وتنظيمه من جديد، والتخلص من هذا الزحام قدر الإمكان، كل ذلك لأسباب أمنية لا علاقة لها بالتمثال وما يُمثله. وتمت عملية النقل بعد عدة تجارب للتحقق من وزن التمثال على المركبات والجسور والطرق. وأجريت أول تجربتين باستخدام كتل الحجر الجيري من وزن مماثل، وفي الثالثة تم استخدام نسخة طبق الأصل من التمثال. وفي 26 أغسطس/آب عام 2006 بدأت عملية النقل، وتحرك التمثال الملكي من موقعه في ميدان رمسيس ليصل إلى موقعه الجديد بجوار موقع المتحف المصري الكبير، قاطعاً مسافة 30 كم، بمتوسط 5 كم/س. واستغرقت عملية النقل حوالي 11 ساعة. وفي يوم 25 يناير/كانون الثاني 2018، وصل «رمسيس الأكبر» إلى مقره الدائم بعد أن تحرك مسافة 400 متر، ليستقر في البهو الرئيسي في المتحف الكبير.
أساطير كثيرة تدور حول رمسيس الثاني، أو رمسيس الأكبر، الفرعون الثالث من حكام الأسرة التاسعة عشرة، الذي حكم مصر في الفترة من (1279 – 1213 ق.م). تولى رمسيس الحكم بعد وفاة والده سيتي الأول، وكان عمره على الأرجح أقل من 25 عاما. وبخلاف توسع الإمبراطورية المصرية في عهده، حيث بلغ عدد الجيش المصري حوالي مئة ألف جندي، ومعاركه مع الحيثيين، وعقده أول معاهدة سلام في التاريخ، إلا أن مومياء الرجل لم تزل تثير الدهشة. هذا الجسد الذي حينما وصل إلى فرنسا ـ تم استخراج جواز سفر باسم الملك الأعظم ـ كان رئيس الدولة في استقباله، من خلال مراسم رسمية، حتى أن الحرس الجمهوري أطلق 21 طلقة تحيّة للملك المصري! إضافة إلى ظاهرة تعامد الشمس على وجه الملك مرتين في العام، وهي الظاهرة التي ترتبط بمواعيد الزرع والحصاد، بدون الفكرة الشائعة عن تاريخي مولده وجلوسه على عرش مصر. ورغم هذا الاحتفاء بالملك وسيرته، إلا أن تهمة (فرعون موسى) لم تزل تلاحقه، ونعجب من علماء الآثار المصريين وغيرهم من مدّعي العلم بالمصريين القدماء، الذين ينفون التهمة عن الملك، وما هي إلا أساطير لا حفريّة ولا بردية ولا نص تاريخي يدل عليها، اللهم إلا تأويلات نصوص تزيد الاكتشافات الحديثة من تهافتها.