القاهرة ـ «القدس العربي»: علي المريخي، مرفت شاذلي، ومحمود الشنقرابي ثلاثة فنانين من جنوب مصر، يستوحون أعمالهم الفنية من العالم القصصي والروائي والمسرحي للكاتب حجاج أدول مواليد عام 1944 الذي استحضر بدوره عالم بلاد النوبة بناسه ومخلوقاته وأساطيره، نذكر منها.. (هضبة المساخيط)، (معتوق الخير)، (ليالي المسك العتيقة)، (تسابيح نيلية)، و(إغراق عنخ).
أقيم المعرض مؤخراً في غاليري (آرت كورنر) في القاهرة، وحمل عنوان (ناس النهر)، وهو العنوان نفسه لعمل مسرحي لحجاج أدول. ومن العنوان نستطيع اكتشاف طرفي الأعمال.. الناس العادية ونهر النيل الذي صاغ حيواتهم وتراثهم وأساطيرهم وطقوسهم، والأهم من ذلك حكاياتهم التي لا تنتهي، حتى إن زال المكان واختفى جغرافياً، إلا أنه لم يزل باقياً في مخيلة وروح هؤلاء.
المكان
يؤسس الفنان علي المريخي لوحاته على المكان، الذي يصوغ بدوره تفاصيل حياة الناس وسلوكهم وأعرافهم. لنجد البيوت البيضاء المبنية من الأحجار بين الجبل، وكأنهما تكوين واحد يجمع ما بين صنع الطبيعة، وصنع الإنسان، هذه البيئة التي تحيط وتُشكّل مخلوقاتها. ويستند المريخي في هذا الفضاء التشكيلي إلى إحدى قرى أسوان. كذلك تتنوع لوحات المريخي بين لقطات عامة كبيرة للمكان لتوضح التكوين في نظرة شاملة، وكما في لغة السينما (لقطة تأسيسية)، ثم يتبعها بعدة لقطات متنوعة الأحجام، من لقطات عامة ولقطات عامة متوسطة لمجموعة من رجال القرية في أنشطتهم الاعتيادية، من خلال زوايا مختلفة، كزوايا مستوى النظر العادية، أو لقطة من زاوية مرتفعة، دون نسيان تجسيد تفاصيل المكان ومناخه، حيث الشمس الدائمة وظلالها، التي ترتسم من خلالها أجسام أصحابها.
الأساطير
تحمل أعمال الفنان محمود الشنقرابي الحِس الأسطوري لمجتمع النوبة الجنوب مجازاً فالرجال والنساء يبدون مخلوقات خرافية، من حيث تكوين الجسد ومبالغاته، إضافة إلى وجود مخلوقات ونباتات وعوالم أخرى في حالة تناغم تام مع البشر، وكأنه عالم منفصل ومتكامل في الوقت نفسه. نضف إلى ذلك بعضا من مظاهر عالم الجنوب الواقعي، كالأسماك وعرائس المولد، وهي تنويعة أخرى على تمازج الثقافات وتنوعها، رغم خصوصية الثقافة النوبية، القادرة على احتواء الثقافات الأخرى، وتوظيفها لصالحها. من ناحية أخرى يبدو الأسلوب السريالي هو الأنسب هنا لمعالجة موضوع اللوحة، وقد سكن المكان المخيلة بعدما اختفى من أرض الواقع. من ناحية أخرى يمزج الشنقرابي بدوره بين عدة أساليب، وفق النهج الخيالي الذي اعتمده في لوحاته، لنجد مقتطفات من مقالات الصحف تناقش فكرة الإسكان أو التسكين، من خلال وجهة نظر الاشتراكية الدعائية التي كانت تتبناها الدولة المصرية بعد انقلاب يوليو/تموز 1952، وبالتالي تحضر في خلفية اللوحة مشكلة تهجير أهل النوبة، هذه المشكلة التي لم تزل تحملها بعض الأجيال القديمة من النوبيين، وقد أورثها البعض الأجيال الجديدة. فالتهجير والوعود بمكان مناسب تأتي ككلمات باهتة في خلفية اللوحة، بينما تأتي الشخوص، وكأنها من عالم آخر تحتل مقدمة اللوحة، عالم أسطوري لكنه أكثر صدقاً ووعياً من كلمات نظام حاكم.
الطقوس
ونختتم بالفنانة مرفت شاذلي، التي تتخذ من الطقس الشعبي لأهل النوبة ثيمة أساسية في لوحاتها، خاصة طقوس الزواج، وكذا الألعاب والرقصات التي تصاحب هذا الطقس. وتتجاوز شاذلي فكرة الواقع، وتنحو بالطقس إلى حالة أصحابه، بمعنى تحقيق إيقاع الحالة دون واقعيتها، فنجد لقطات منطقية وفق رؤية الفنانة لرجل وعروسه يطيران في الهواء، وكذلك الرجال يطيرون في لعبة التحطيب. ومن ألوان تحمل سمات الطبيعة تتكون اللوحات، كالأحمر والأزق والأصفر في الغالب. وبما أن موضوع اللوحة يدور حول الطقس الشعبي، فأغلبها يحتوي مجموعات من أهل المكان.. عائلات وأقارب وأصدقاء، هذا التكوين يكشف محاولات الاحتفاظ بذاكرة حيّة تعيد سرد حكايات لن تنتهي بدورها، مهما تغيّر المكان أو الزمن.
ناس النهر
ونعود لعنوان المعرض الذي أصبح كمظلة كبيرة لهؤلاء الفنانين، فالإنسان النوبي لا يستطيع تخيّل الحياة أو وجوده بعيداً عن نهر النيل. ويبدو أن الجميع لم يزل أسير ذاكرة جمعية عن حياة مضت، لا يمل من ترتيلها مراراً والتغني بها، رغم نغمة تصالح البعض مع الوضع الراهن، وأن فكرة التهجير كانت ضرورة أو شرا لا بد منه. إلا أن (النهر) سيظل يجسد الجنة المفقودة التي كان يعيش فيها النوبيون، رغم محاولات التجاوز والتعايش الآن، وهو ما لم تستطع الذاكرة تجاوزه.