نهاية الشهر الماضي، وبالتزامن مع سفر رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإلقاء خطاب السودان أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، كان الجيش السوداني قد بدأ عملية عسكرية غير مسبوقة في الخرطوم تهدف للسيطرة على مناطق حيوية وطرق إمداد. للتذكير، فقد كانت عصابات الدعم السريع التابعة للجنرال المنشق محمد حمدان دقلو «حميدتي»، التي بات يطلق عليها اسم «الجنجويد»، تسيطر، حتى ذلك الوقت، على أغلب منافذ العاصمة. تلك السيطرة، التي بدأت منذ أواسط العام الماضي، كانت قد أجبرت القيادة السياسية للدولة على الانتقال ومزاولة مهامها من مدينة بورتسودان الساحلية في شرق البلاد.
أطلق البعض على تلك العملية اسم «معركة العبور»، في إشارة لتمكن الجيش، وأعداد من المتطوعين، من عبور أهم الجسور في العاصمة والتمركز في مداخلها. ظل ذلك الهدف ولشهور طويلة أمرا محفوفا بالمخاطر، بسبب ما كان يظهر من تفوق الجنجويد في الأسلحة، وفي أعداد المقاتلين، الذين كانت طرق وصول أعداد كبيرة منهم من غرب السودان ومن دول مجاورة مفتوحة.
قوة الميليشيا كانت تتضاعف مع الأيام، فبالإضافة إلى وضع أيديهم على مخازن محلية للمعدات العسكرية المتقدمة والذخيرة، كان يظهر حصولهم على أنواع مختلفة من الأسلحة من داعمين إقليميين. هذا الدعم وصل حد تقديم طائرات من دون طيار وفتح المجال لاستقبال أعداد من المرتزقة من المقاتلين والقناصين المحترفين.
الانقلاب في شكل الميزان العسكري، إن استمر بهذه الوتيرة، فسيقود لا محالة لهزيمة أو استسلام الميليشيا، أو في أحسن الأحوال إلى دفعها للجلوس إلى طاولة تفاوض لا تملك فرض أجندتها فيها
كان في إلقاء الرئيس البرهان خطابه، وهو الذي حاولت جهات عدة التشكيك في شرعيته وأحقية تمثيله للبلاد، دفعا للروح المعنوية ومواساة للسودانيين، الذين كانوا قد عاشوا شهورا مريرة ومليئة بأخبار الانتهاكات المروعة والتخريب. ذلك الإحساس بالارتياح كان يفسر المشهد، الذي نقلته الكاميرات، والذي تجمع فيه سودانيون من خلفيات مختلفة قبالة مبنى الأمم المتحدة في نيويورك لإلقاء التحية على الرجل، الذي يجمع بين قيادة الجيش والبلاد. كان واضحا أن الجميع تناسوا اعتراضاتهم السابقة، أو تحفظاتهم، فلم يبق سوى الإحساس بالامتنان لقائد معسكر صد الجنجويد. بالنسبة لهؤلاء ولغيرهم، فإنه ليس هناك ما هو أولى في هذه المرحلة من قهر المعتدين، الذين ما عاد أحد يستطيع الدفاع عن جرائمهم أو يجرؤ على أن يربط اسمه بشكل صريح بهم. تزايد الارتياح بعد وصول الصور والفيديوهات، التي توضح توسع تقدم الجيش نحو مناطق يعرف أهميتها أهل الخرطوم. أثارت تلك الفيديوهات الحماس وجعلت السودانيين يخرجون للفرح والاحتفال في مناطق مختلفة داخل وخارج السودان. أوصلت تلك المشاهد رسالة مهمة، لمن كان يحاول أن يروج لنظرية الانقسام في الشعب ما بين جيشين. الحقيقة، التي أظهرتها الاحتفالات العفوية، هي أن هناك جيشا شرعيا واحدا، وهو الذي يلتف حوله السودانيون وتفرحهم انتصاراته، أما ميليشيا الخراب، فكانت ما أن تدخل مكانا، حتى يتحول أهله لنازحين، إن سمح لهم بالخروج، هربا من القتل والخطف والاعتداءات. التفاصيل العسكرية الدقيقة للعملية، التي ما تزال مستمرة حتى اليوم، لم تكشف بعد بشكل كامل، لكن الواضح هو أنها استندت إلى خطة محكمة، توزعت على عدة محاور كان من أهمها تحييد القناصين، الذين كانوا ينتشرون بكثافة على سطوح المباني العالية. ذلك الأمر لم يكن بالسهولة، التي يبدو عليها، فقد كانوا، إلى جانب كونهم على تدريبٍ عالٍ، مسلحين ببنادق متطورة ومناظير للرؤية الليلية ولتحديد الأهداف.
المحور الآخر كان الاتجاه نحو تحييد مطلقي القذائف، الذين كانوا يخلقون حالة من الرعب، ليس فقط لقدرتهم على استهداف مناطق تمركز الجيش، وإن كانت بعيدة عنهم، وإنما لأنهم كانوا يطلقون قذائفهم، في كثير من الأحيان بشكل عشوائي، وفقط لإثارة الرعب بين السكان وإشعارهم بأنهم ليسوا في أمان، وأن مظاهر الحياة، التي كانت قد عادت إلى بعض المناطق، خادعة. قبل معركة العبور، التي بلغت أهميتها أنها باتت تقارن بعبور الجيش المصري لخط بارليف في حرب أكتوبر/تشرين الأول، كانت القوات المسلحة السودانية متوزعة في مقار متباعدة تظهر كجزر معزولة. جعل ذلك مهمتها تقتصر على حماية تحصينها الذاتي ومنع العدو من اختراقها. الذي حصل غيّر كل هذا وخلق معادلة جديدة تشرحها عبارة «التقاء الجيوش»، التي يستخدمها المحللون العسكريون لتوضيح أهمية المعركة.
توضح معركة الخرطوم من جديد أن الحسابات المادية ليست كل شيء، فبالنظر للحصار، الذي كان يعيشه الجيش السوداني وضعف الإمداد والضغوط الدبلوماسية، التي مارستها دول إقليمية مؤثرة كانت، وما تزال، متواطئة مع حميدتي، كان الأمر يبدو وكأن أي تحرك بري هو مغامرة خاسرة، بل إنه، حتى بعد تسرب أنباء عن بدء المعارك، كان كثير من المتابعين يأملون ألا يشكل هذا التحرك هزيمة ساحقة للجيش.
يمكن للمحللين العسكريين أن يحدثونا في المستقبل عن سير تلك المعركة، لكن الأكيد هو أنه كان للشباب المتحمس، الذين تحركوا عبر الجسور راجلين، مكشوفي الصدور، ومن دون مركبات مصفحة، الدور الأكبر في تحقيق ذلك الانتصار، الذي لم يأت من دون ارتقاء بعضهم شهيدا. الروح المعنوية العالية والرغبة في تكبيد العدو خسارة لا تنسى، كان لها أثر كبير في نجاح مخطط العبور. نحن نتحدث هنا عن عامل جديد، وهو دخول مقاتلين ومتطوعين سودانيين كانوا في معظمهم شهودا على فظائع لم يطلع العالم إلا على جزء قليل منها. الميليشيا، التي سنكتشف أنها تعتمد على منطلقات عنصرية، كانت تتعمد إذلال وإهانة الأهالي المنتمين لقبائل يتصورون أنها معادية لهم، أو أنها تمنعهم من الحصول على حقوقهم في السلطة والثروة. توسعت الميليشيا في سلوكها المبني على الحرب على الهوية لدرجة التلذذ بتوثيق اعتداءاتها على الأبرياء، أو على أشخاص لمجرد سحناتهم أو أسمائهم.
لا يمكن القول إن المعركة على الخرطوم حسمت، فالميليشيا لا تبدو حتى الآن مستعدة للاستسلام، بل إنها لا تعترف بتراجعها، فيما تؤكد تقارير أنها تحضر لهجمات جديدة من أجل إعادة إسقاط نقاط عسكرية أو إحداث اختراق. يساعد هذه القوة المتمردة أنها ما تزال تحصل على الإمداد الخارجي، الذي يصل عبر طرق ما تزال في يدها، أو عبر جسور لا يرغب الجيش في خسارتها. هذا الإمداد والتواطؤ يمنح المتمردين الجنجويد قبلة الحياة ويساهم في إطالة أمد الحرب. بالمقابل، فإنه لا يمكن التقليل من التقدم، الذي حصل خلال الأسبوعين الماضيين، والذي شمل تمددا في مناطق شاسعة، خاصة في أحياء الخرطوم بحري، التي عانى من تبقى من أهلها أشد المعاناة خلال الفترة الماضية.
معارك الخرطوم تزامنت أيضا مع نجاحات عسكرية أخرى حققها الجيش السوداني في أنحاء مختلفة من البلاد، لينقلب السحر على الساحر وتكون الميليشيا، التي كانت تعتمد على مخطط إشغال الجيش، وتشتيت جهوده في محاور متباعدة، هي نفسها ضحية لهذا التكنيك وقد استبد بها الضعف وشح الموارد. موازين القوى تغيرت بلا شك. الانقلاب في شكل الميزان العسكري، إن استمر بهذه الوتيرة، فسيقود لا محالة لهزيمة أو استسلام الميليشيا، أو في أحسن الأحوال إلى دفعها للجلوس إلى طاولة تفاوض لا تملك فرض أجندتها فيها. أما أولئك المشفقون، الذين كانوا يرفضون التفاوض جُملة، خشية أن يساق الجيش لتقديم تنازلات، فإن عليهم أن يطمئنوا، فليس مشهد اليوم كالأمس.
كاتب سوداني