تعزو رجاء بن سلامة في كتابها «بنيان الفحولة: أبحاث في المذكر والمؤنث» الفضل في ريادة وتأسيس مفهوم «الجندر» أو ما تسميه «النوع الاجتماعي» لفرويد مؤسس مدرسة التحليل النفسي. ومع ذلك كان منهجها أقرب لحفريات فوكو. فقد تابعت ولادة معنى الجنس الثالث واللاجنسي في المدونات، ابتداء من القرآن وحتى «الأغاني» لأبي فرج الأصفهاني، مرورا بكتابات الجاحظ. واعتبرت أن القرآن حرّم بشدة المثلية الذكورية، ولكنه وعد الصالحين بولدان مخلدين. ورأت أن هذه الإشارة تدعم موضوع متعة الرجال بغلمان من الجنة.
مع أن السياق يشير لدور خدماتي لا يشمل البهجة الجنسية أو اللذة، ناهيك من أن كلمة ولدان تدل على يافعين وكلمة مخلدين تدل على أهل الجنة (من نشأ فيها بعيدا عن كل قيود وأعصبة الواقع الدنيوي) ثم إن العبارة غير نوعية ولا مخصصة، وتطلق على المذكر والمؤنث. ولا أعلم لماذا ترى ابن سلامة في هذا المشهد شيئا يتجاوز حدود الخيال الإسلامي لليوتوبيا. فهو مجرد وعد من الذات الإلهية بتوفير أساليب ووسائل الراحة للكبار، الذين اتبعوا توصيات الخالق وطبقوا كل تعليماته. وهي جزء من كم هائل من المشاهد فوق الطبيعية، سواء في القرآن أو الحديث والتي تأتي في إطار رموزي يتعمد المبالغة.
مع ذلك هذا لم يمنعها من استنتاج ملاحظات مهمة عن الفجوة المعرفية التي تفصل الواقع عن النص. فقد كان المجتمع العربي منذ بداياته يعاني من ازدواجية في المعايير، وهو ما رأت فيه ريبكا غولد، ضمن دراساتها عن إسلام العصور الوسطى، اضطرابا بالتعبير المجازي. وهو ما تطور في العصر الحالي لنوع من المواجهة بين الولاءات. وبلغة رجاء ابن سلامة، بين عرب محدثين وموجات تدخل في عداد ما يسمى الصحوة الإسلامية. وقادها ذلك إلى قراءة بعض المفاهيم ومنها مبدأ «القوامة في الإسلام» وهو مبدأ اجتماعي وله أسباب اقتصادية فرضها النظام الاقتصادي المتبع في القرن السادس بعد الميلاد، الذي يتصف بأنه اقتصاد جائر وغير متوازن ويعبر عن اختلافات عميقة بين بقايا مجتمع البادية، ورواسب الحياة الحضرية. فقد كانت حياة القبائل تعتمد على الصدفة والمغالبة، بينما استقر في المدن نظام عمالة هرمي وطبقي. وبقليل من المرونة يمكن أن تفهم أن الحياة في المضارب تحتاج لذراع لحمل السيف، إن لم يكن بهدف الحرابة، فعلى الأقل لمواجهة مخاطر وغدر الطبيعة، مقابل الإيمان بالقيمة التبادلية للسلع والحرف في المدن. حتى أن الأمر الإلهي كان مشروطا. فقد ربط القوامة بالتفضيل والإنفاق. وكما لاحظت ابن سلامة «أن انتهاء الظرف يفرض إنهاء المفعول» ولذلك تدعو بدون مواربة لإنهاء وصاية التراث وفرض الحداثة ولتبني «عمل حداد» بلغة فرويد. وتضيف لاحقا: «أن الحداد لا يسيء لأحد، ولكن يضفي جوا من الاحترام والتقدير، بدون أن يسمح للموضوع المنعدم بالتحكم بحياتنا ومصيرنا».
تضع ابن سلامة قائمة بانتهكات الوكالة الدينية ضد المرأة. ولكن لم أجد أي عيب فعلي في النصوص، فالأديان تلجأ للأساطير والترميز للترويج لنفسها.
وعلى هذا الأساس تنظر لمشكلة الحجاب الذي تختص به المرأة ويُعفى منه الرجل، ولكنها تقسم الحجاب النسوي لنوعين: حركي (خمار وفوقه جلباب) وفضائي (يفرض إقامة جبرية على النساء في محميات لا تصل إليها عيون الذكور البالغين) وتقصد به على نحو خاص عزل نساء النبي عن الحياة العامة. وأغتنم هذه المناسبة لتوضيح نقطتين: الأولى أن الخمار تقليد اجتماعي معروف قبل الإسلام. وهذا باعتراف الكاتبة بن سلامة التي بنت فكرتها على بحوث روزين لامبان المختصة بالثياب الدينية. النقطة الثانية أن تضييق الحركة على النساء مذكور حتى في معلقة طرفة بن العبد، المتوفى قبل البعثة بحوالي 40 عاما، وذلك في معرض كلامه عن البكهنة في حرمها المعمّد (المرأة البدينة بيضاء اللون التي لا تضطر لأداء أعمال سخرة عضلية). فقد كانت زينة ذوات الخدور لا تكتمل إلا بلون البشرة الأبيض. وهذا بالضرورة يتطلب ارتداء كساء فوق كساء أو جلبابا مع خمار، بالإضافة إلى الاحتماء تحت سقف يمنع أشعة الشمس والغبار. وأنا مع ابن سلامة أن الخباء كان علامة طبقية خاصة بالحرائر، كما لاحظت في خطاب للخليفة عمر بن الخطاب مع جارية مكممة. وحين فرض الإسلام الحجاب على كل النساء لم تكن الغاية تحصين المجتمع من الفتنة، كما هو شائع، ولكن لتحقيق المساواة ولتحرير الإماء من علامة التبعية.
ثم تضع بن سلامة قائمة بانتهكات الوكالة الدينية ضد المرأة. ولكن لم أجد أي عيب فعلي في النصوص، فالأديان تلجأ للأساطير والترميز للترويج لنفسها. إنما تخلف الحضارة وقصور عقلية التخلف، يحد من مرونة التواصل مع المعنى. فالتخلف لا يعتمد كما يفترض أدونيس على نقل وتمكين الأسطورة، وكأنها واقع، أو التصورات وكأنها أحداث جرت فعلا، وإنما يلجأ التخلف للمحاكاة، ويقلد أوهامه الذاتية قبل أن يقلد تصورات غيره. وهنا أود أن أستعير من خليل أحمد خليل مخططه عن البنية الهرمية للقيادة عند العرب. في وقت الرخاء يكون التابع مساويا للمتبوع، لكن في أوقات الشدة تفصل الطرفين مساحة غامضة من الأفعال المؤجلة، ولذلك إن بنية التخلف ليست تبعية فقط، ولكنها ملغومة، وتزداد فيها الاحتمالات.
ويأتي آخر فصل بشكل مسك الختام، ويعرب عن التفاؤل بالحداثة العربية، وتقسيمها لأنواع: منسية ونهضوية ومعاصرة. ولا جدال أن لدينا كما هائلا من المقاربات لمشكلة الحداثة، ولكن هل نحن على وشك أن نفهم هذا اللغز الغامض؟ إن كل ما فعلناه حتى هذه اللحظة هو البحث عن اسم لتفكيرنا ولأساليب المناورة مع هذا التفكير. وبالنسبة للحداثة تحديدا فهي رماد لأوراقنا المحترقة التي لا يسعني أن أرى فيها غير بقايا رومانسيات وميتافيزيقا. والمحوران بتناحر دائم، كل منهما يلعب بعروس الحداثة بطريقته. ولم تفوت رجاء ابن سلامة الفرصة على نفسها، وأعلنت عن أقنعة حداثاتنا المبسترة وقليلة الدسم، بمعنى غير النافعة إن لم تكن الضارة (في كل أساليب تطبيقاتها) حينما قالت «إنها شيء بأسماء مستعارة، ونعتقد أنه يدل على أفق نهضوي، لكنه يعتمد على ماهيات تعيق المعرفة التاريخية العلمية». وتضيف في السطور القليلة التالية: «حتى أن كل هذه الأسماء الشائعة، لا تشير إلى فكرة وصورة الخروج أو القطيعة أو التبدل الجذري، بل تحولت لمشروع مجتمعي يروج لرواية رسمية أو شبه رسمية عن نهضة ميتة».
بنيان الفحولة: أبحاث في المذكر والمؤنث. رجاء بن سلامة. 2005. ط1. دار بترا للنشر والتوزيع. دمشق. 174 ص.
كاتب سوري