معيقات الواقع العربي للنهج الديمقراطي

موضوع الانتقال إلى الديمقراطية في بلاد العرب، يحتاج إلى مراجعة بين الحين والآخر بسبب التغيرات الكبيرة السياسية التي لها تأثيراتها على هذا الموضوع الحساس.
لقد طرح هذا الموضوع كبار المصلحين العرب منذ أكثر من قرنين، خصوصا بعد الغزوة النابليونية لمصر، واحتكاك العرب المباشر مع حضارة ومجتمعات الغرب الأوروبي. وعبر قرنين ظل الموضوع يراوح بين شد وجذب، ونقاشات لا نهاية لها، لكن وصل طرح الموضوع إلى زخمه منذ حوالي ربع قرن، عندما نوقش في عشرات المؤتمرات وفي مئات المؤلفات الرصينة، وعندما أنشئت مراكز متخصصة في الموضوع الديمقراطي، من أجل ترسيخ المفاهيم والمنهجيات الديمقراطية في الحياة الثقافية والسياسية العربية.
في تلك المناقشات، التي عقدت منذ ربع قرن جرى استعراض العوامل المجتمعية والسياسية والظروف الإقليمية التي قد تعيق الانتقال إلى الديمقراطية، ووضعت تصورات عن نوع الديمقراطية المطلوبة في حدها الأدنى. حتى ذلك الحين تركزت عوامل الإعاقة للانتقال إلى الديمقراطية المماثلة لديمقراطيات الغرب في حقلين:
السياسة والثقافة. أما العوائق السياسية فاشتملت على الأنظمة العسكرية، التي حكمت العديد من بلدان العرب، وأنظمة حزب الحكم الواحد الشمولية، المتأثرة بالنظام السياسي الشمولي في الاتحاد السوفييتي، وضعف مؤسسات المجتمع المدنية الحزبية والنقابية والمهنية، وتركيبات الدولة التقليدية، القائمة شرعيتها على الولاءات القبلية والعشائرية والعائلية، وانتشار وقبول شعارات من مثل «لا صوت يعلو على المعركة ضد الاستعمار، أو المعركة ضد الصهيونية، وترسبات تاريخ الاستبداد الطويل في الحياة العربية، وأخيرا في صراعات النخب في ما بين التي قادت الحراكات الوطنية من أجل الاستقلال، والتي خرجت من رحم الثورات والانقلابات.

هوس الحكومات العربية بالموضوع الأمني جعلها في عداوة وجودية مع أي ممارسة ديمقراطية حقيقية

أما العوائق الثقافية فتمثلت في مبدأ الطاعة الفقهي الشهير، الذي لا يجيز الخروج على ولي الأمر، إلا تحت شروط تعجيزية، وفي المماحكات السياسية حول كلمتي الشورى الإسلامية والديمقراطية العلمانية، وفي هيمنة قيم وسلوكيات وفكر المجتمع البدوي والقروي، في فضاءات ومدن وعواصم العرب الرئيسية، وفي وجود قوى إسلام سياسي كبير، لا يريد أن يضيف إلى شعاره الشهير القائل «بأن الإسلام هو الحل» أي شعار عصري آخر تتطلبة الظروف العربية المتجددة. كانت تلك عوامل ثقيلة ومعقدة، مرهقة لمن يريد مواجهتها. وما كان بالحسبان أنها ستصبح أكثر وأعقد وأثقل، بفعل التغيرات الهائلة التي اجتاحت الوطن العربي في العشرين سنة الأخيرة. ذلك أن الساحة السياسية العربية ما عادت مقتصرة على حكومات وأحزاب، فالحراكات الجماهيرية قادها الشباب غير المنتظم في أحزاب، ما جعل للتنظيمات الشبابية غير الحزبية حضورا فاعلا. والتنظيمات الجهادية العنفية الإسلامية المتزمتة، المرتبطة بجهات حكومية واستخباراتية خارجية وداخلية، أصبحت لها تأثيراتها الهائلة في الكثير من المجتمعات، ونجاح دول إقليمية من مثل إيران وتركيا في أن تصبح قوى متواجدة ومؤثرة في العديد من الأقطار العربية عقّد الحياة السياسية العربية برمتها. والصعود المذهل للنفوذ والتواجد الصهيوني في العديد من الأقطار العربية، ينبئ بأن حكومات الكيان الصهيوني والموساد سيلعبون أدوارا مستقبلية مدمرة. وهوس الغالبية الساحقة من الحكومات العربية بالموضوع الأمني على حساب كل موضوع مجتمعي آخر جعلها في عداوة وجودية مع أي ممارسة ديمقراطية حقيقية، إلا إذا كانت شكلية مزيفة.
وفي الساحة العالمية برزت عوامل مؤثرة جديدة، فالثقافة العولمية المرتبطة بالنيوليبرالية الرأسمالية أدخلت الملايين من الشباب العربي في عوالم الاستهلاك النهم والفردانية غير الملتزمة بالخير العام، وبالتالي أضعفت وعيهم السياسي وسطحته. ووسائل التواصل الاجتماعي أصبحت أداة طيعة في يد من يريدون التلاعب بالأفكار والمشاعر وتوجيه الجمهور نحو الوجهة التي تخدم مصالح أصحاب المال والنفوذ والهيمنة. وإذا كانت جهات مشبوهة قد استعملت تلك الوسائل ونجحت في التأثير في نتائج من مثل الانتخابات الأمريكية الأخيرة، وفي نتائج استفتاء الرأي العام الانكليزي، بشأن الخروج من الاتحاد الأوروبي، على الرغم من كل وسائل الرقابة الإعلامية والحكومية في البلدين، فإن الإنسان يمكن أن يتصور الدور الهائل الذي ستلعبة مستقبلا في الحياة السياسية العربية، سلبا وإيجابا، ما سيجعلها أحيانا أداة لتزييف أي انتقال ديمقراطي.
لقد وصفنا في مقال الأسبوع الماضي القلق الذي يساور مجتمعات الدول الغربية الديمقراطية، من جراء وجود نقاط ضعف وترهل وأزمات في مسيرتهم الديمقراطية. وحاولنا اليوم إبراز التغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في المجتمعات العربية، التي قد تكون لها تأثيراتها السلبية والإعاقية في محاولات الانتقال إلى الديمقراطية في أرض العرب. هل هذا يعني التخلي عن هدف الإنتقال إلى ديمقراطية سياسية واقتصادية معقولة وعادلة، حتى لو كانت تدرجية؟ أبدا، العكس هو الصحيح.
فموضوع الديمقراطية أصبح قضية وجودية في حياة العرب، وهو ما يحتم أن يدخل الشباب العربي في مناقشته بتمعن شديد حتى يحيّدوا العوامل المجتمعية التي ستظل تحاول أن تجعل من الديمقراطية نهجا سياسيا مظهريا ومزيفا لا يقدم ولا يؤخر. وسنتابع طرح هذا الموضوع للنقاش.
كاتب بحريني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول S.S.Abdullah:

    يا أيها الوزير، أنت من البحرين، من دول مجلس التعاون، ولذلك لا أفهم، لماذا عقلية النظام الثنائي، إما ديمقراطية أو ديكتاتورية؟!، هو أول تعليق لي على عنوان (معيقات الواقع العربي للنهج الديمقراطي)، والأهم هو لماذا؟!

    التعداد، والكتلة الأكبر، وعقلية بعد ما ننطيها/نعطيها، إشكالية الحكم في العراق بعد 9/4/2003، بالنسبة للشيعة،

    وهي نفس مشكلة مملكة البحرين بعد 8/8/1988 تاريخ توقف الحرب العراقية الإيرانية بدون حسم، إيجاد حل لمشكلة عقلية (تصدير ثورة الخميني الشيعية)، إلى دول الجوار،

    زاد الطين بلّة، دخول الملك عبدالله الثاني، في عام 2004 في تسويق الهلال أو القمر الشيعي، بحجة الحكم بالمحصلة لآل البيت (الهاشمي الأردني أو العلوي المغربي)،

    وهذا بالتأكيد على حساب البحرين أولاً، ودول مجلس التعاون في الخليج العربي ثانياً.

    الآن، وبسبب عقلية من يتغدى بمن، قبل أن يتعشى بمن، تم حصار قطر في سياق وتوقيت غريب، عجيب، 5/6/2017، بعد خمسين عام، سبحان الله؟!

  2. يقول S.S.Abdullah:

    نجاح قطر، في محاربة الحصار من جهة، والوصول إلى الاكتفاء الذاتي، كنموذج إقتصادي،

    بينما دولة الكيان الصهيوني (دولة الكيبوتسات) ما زالت لم تستطع الوصول إلى الاكتفاء الذاتي بعد أكثر من 70 عام،

    وفي هذا نسف للفكر الشيوعي/الإشتراكي/الديمقراطي/القومي (الثورة الفرنسية)، التي توسط رئيسها (ماكرون) كنوع من الشفاعة والمحسوبية لدى السعودية،

    حتى لا يدفع (سعد الحريري) حقوق الدولة على شركة (سعودي أوجيه)، أين العدالة وتطبيق القانون إذن، يا أيها الوزير السابق (الصحة، التعليم)؟!??
    ??????

إشترك في قائمتنا البريدية