مع أدونيس… حديث عن الشعر والقومية العربية

هبطت الطائرة في مطار بيروت، وكانت السماء تمطر في جو السماء، وعلى الأرض. في صالة استقبال الوافدين بعثتُ رسالة عبر «الواتس» إلى أرواد، ابنة الشاعر:
«أنا في بيروت».
لم يكن الطريق إلى الفندق طويلاً، وقد اشتد هطول المطر، وكنت أرى أغصان الأشجار تتكسر وتهوي بعصف الرياح. فندق Q»»، بنوافذه الوردية البهيجة، كان منزلي في تلك الليلة. كانت الساعة قد تجاوزت الثامنة مساء عندما اتصلتُ بابنة الشاعر، وحدث أن تأجلَ موعد اللقاء حتى نهار الغدِ، وكنت أعلم أن أدونيس مسافرٌ إلى باريس في اليوم الذي يليه. ما أضيق الفسحة بيننا إذن؟ نهارٌ واحدٌ. ساعاتٌ. دقائقُ.. رتبتُ أغراضي على عجلٍ في غرفتي، ومثل طائر يرفع جناحيه ألقيتُ نفسي في المدينة، من دون أن أطأ الأرضَ. ليلُ بيروت نهار، وشارع الحمرا كان مثل ثديٍ يطعمني، ويشعل لي في الهواء وقدة ملتمعة. حتى الوحلُ اللبناني نظيفٌ، والضفادع رومانسية، وكذلك الخفاش، والحب في الشارع يروح ويجيء، وأنا أسيرُ بطيئاً، متمهلاً أكثر عند نور البنفسجات، أو عند ضوء زهري يهب لي الشعور بالسعادة لأني على سفر. الحانات أدرى بنا نحن الذين نعشق الشعر والموسيقى والمرأة التي نهوى إلى حد العبادة. نحن إذن عاشقون بالثلاثة..
هنالك ضباب مطرٍ في العشب الوحشي في نافذة البار. بقيت أشرب حتى كلت ذراعي من فرط السعادة، وشبعتُ من قراءة الشعر، وكنت أحمل معي أعمال فؤاد رفقة الشعرية. يمكن للبار أن يكون المنزلَ، يمكن للبحر أن يكون المعبدَ، يمكن للسماء أن تصير شوارع… مع آخر خلجةٍ للجاز غادرتُ الحانة، ومع آخر الأمطار عدتُ إلى فندق Q، وكانت في الهواء حشرات، هي خيوط من الضوء المرتجف، مع ظلال أشجارٍ سكرى تتهاوى على بعضها البعض، مبللة بضوء القمر. في الغرفة استرحتُ من الخمرة، ومن الشعر الذي أقرأ، والشعر الذي أحفظ، والشعر الذي أغني. الإعياءُ هو راحتي الأخيرة، وشيئاً فشيئاً كان ينحدر معي في النوم كوكب دري تصير روحُه أماً لي، تهز لي السرير، وتكلمني بطلاوة؛ تهدهدني كي أنام، هو بالتأكيد طيف الشاعر..
في صالة الفندق، وبعد أن أتممت فطوري، جاءتني رسالة السيدة أرواد ابنة الشاعر، عبر الواتساب: «نحن ننتظرك في المنزل». وكان جوابي: «أنا جاهز! مسافة الطريق فقط!».
كان نهاراً ناعماً من نهارات بيروت، بلل الشوارع فيها مطر الليل حتى ارتوت. التاكسي تدور بي في المدينة، تعبر بي «الروشة»، والصخرة العريقة، حيث تمتد الأمواج على شواطئ أكثر بهاء مما في بدء العالم. العنوان واضح لدى «الشوفير» سائق التاكسي باللبناني: أول كورنيش المزرعة، باتجاه البربير. بناية عميص. الطابق الرابع. لكن المصعد عاطل. وبلغت الطابق الأخير من البناية، وأنا ألهث. الشمس في بيروت زرقاء. السلم يؤدي إلى شقتين. الباب الذي على اليمين، حيث تبدو الشقة مهجورة. قرعت جرس الشقة الأخرى، وانتبهت إلى أصص النباتات العديدة التي تزين المكان. مدخلٌ يليق بمسكن فنان أو أديب وشاعر. قرعتُ الجرس ثانيةً، وفُتحَ الباب مباشرة. امرأةٌ أنيقةُ الملبس للغاية وطويلة القامة، كأنها طلعت إليّ من إعلان تلفزيوني وليس من الواقع. كانت سمراء ومليحة. عرفتها باسمي، ولما رأيت علامات الاستفهام على وجهها البريء، قلت:
«لدي موعد مع الشاعر».
«أي شاعر؟».
سألتْ، وذكرت لها اسمه، ولم يتغير في سحنتها اللطيفة أي شيء. تيقنت عندها أن المرأة لا تعرفني ولا تعرف أدونيس… التفت إلى الشقة الثانية في الطابق نفسه. هل من المعقول أن الشاعر الذي لا أعلى من راية اسمه في دنيا الشعر بيننا يسكن خلف هذا الباب الزنجاري اللون، كأنه باب مخزن لأدوات غيار السيارات؟ ثم عثرت بصعوبة على زر الجرس، وقرعتُه، وأطلت امرأةٌ رأيتها في تلك اللحظة تشبه الملاك، لأنها قالت:
«أنت حيدر المحسن؟ الشاعر أدونيس في انتظارك».
عندما دخلت الشقة كانت سحابة عميقة بنفسحية تعبر النافذة. كنت أحمل هدية هي ثلاث علب من التمر في حقيبة متوسطة الحجم مما تحمله الطائرة كحقيبة يد. حييت الشاعر وصافحته، وكانت تلك اللحظة ليست أرضية. الأكف، وهي تتلامس، تقرر في ما لو كانت طيوراً سوف تطير وتحلق، أو أنها تكتشف في ذاتها حراباً عليها أن تقتتل. النظرات وهي تتلاقى، يكون لها عادة القرار ذاته. الصالة قليلة الأثاث، كرسيان وكنبة وطاولة عليها الكتب، مع لوحات معلقة. في الخارج كان النهار الخريفي رائعاً، تنقل لنا النافذة نبضاته.

«إننا أُعتُقلنا فكرياً ووجدانياً، وبالتالي حضارياً من قبل من جاءنا بفكرة القومية العربية»

قدمت شكري في أول كلامي إلى الصديق الغائب سامي أحمد، صاحب دار التكوين، وكان أرسل مجموعتي الشعرية «ريشة من حجر» إلى أدونيس، وكتب الشاعر تقديما للكتاب. وابتدأت حديثي عن التمر. قلتُ: العراقيون كانوا يزرعون النخل، بل إن العراق سمي بصفة من لون غابات النخيل القاتمة على طول أرضه: «أرض السواد». جاء في الذِكر: «ومن دونهما جنتان»، ثم قال تعالى لما وصفهما وشوق إليهما: «مدهامتان». أي: من حدة خضرتها صارت سوداء. بلادي إذن جنة. البساتين الآن تموت جدباً لأن لا أحد يسقيها. الفلاح يتعارك مع أخيه وابن عمه، أو مع نفسه، وهنالك بساتين قريبة من الأنهار يموت التمر في أعاليها من الوحشة. بعد أن ينتهوا من التقاتل، يجلس أهل الجنة على سرر متقابلة من الاستبرق والحرير، ويخططون لمعركة ثانية. سألني الشاعر:
«هل تعتقد أنه سوف يستمر إلى ما لا نهاية؟»
«لا»
«وما الذي سوف يوقفه»
«سوف يتصدع في مكان ما»
قلت هذا، وكان في قولي نوع من المكابرة التي نجيدها نحن أبناء هذا الوطن، ذلك أننا كنا نتصدع جميعاً، وفي كل مكان، وحين يحدث الشرخ في الإنسان، من ذا الذي يستطيع أن يلحم هذه الجراح؟ قدمت لي أرواد قدح ماء وعادت تجلس في مكانها. امرأة تجاوزت الثلاثين، طويلة، شقراء، ذات بشرة ضاربة إلى السمرة وعينين شهلاوين. وأنا أنظر إلى الماء الصافي في القدح قلت: «المشكلة أننا لم نبلغ هذه الدرجة من سوء الحال حتى في أكثر السنين ظلاما، بعد الغزو المغولي مثلا..». رفع الشاعر لي حاجبيه، واتسعت عيناه، وكانت هيئتي تدل على أني أريد أن أكمل:
«هذه نهاية الدرب التي سار عليها دُعاة القومية العربية، فمنذ أن رفعوا هذا الشعار ونحن نتقاتل مع بعضنا ومع الجميع. وكانت النتيجة أننا هربنا من بلداننا، وصرنا شتاتا في الأرض». «لكن اللغة العربية تجمعنا، فهي من السعة والانفتاح حتى أنها تستقبل كل سكان الأرض.. نعم! علينا أن نفتخر بها، وأن لا ننسى في الوقت نفسه أسلافنا». قال الشاعر، وهذه أول مرة أسمع فيها صوتا شبابيا قويا لرجل بلغ التسعين. إن مواجهة الجَمال في النغم والصورة والكلمات تجعلنا لا نشيخ أبدا. أبدا. قلتُ:
«أعتقد أن اللغة توحد لساننا فقط، مثل الإسبانية في أمريكا اللاتينية، فهذه الشعوب تنتمي إلى أعراق شتى ويدينون جميعا بالمسيحية، ومن حسن حظهم أنهم لم يظهر بينهم إنسان غافل مثل عبد الناصر». هنا اعتدل أدونيس في جلسته. قال، وكان صوته خافتاً كأنه يريد أن يبوح لي بسر: «إننا أُعتُقلنا فكرياً ووجدانياً، وبالتالي حضارياً من قبل من جاءنا بفكرة القومية العربية». «أؤيدك الرأي تماما. يُقال عن التاريخ إنه جغرافية متحركة، وكانت هجرة ونزوح العرب إلى بلدان المنطقة الممتدة من الخليج إلى المحيط سياسية ودينية وبيئية، إن صح التعبير، في مراحل مختلفة من التاريخ القديم والحديث، والقوميون العرب يريدون أن يقطعوا جذورنا مع جميع الأسلاف إلا العرب، وهذه القطيعة مع الماضي هي التي أوصلتنا إلى هذا المصير».
كانت الساعة تقترب من الثانية عشرة، وشمس الظهر تجفف مطر الليل على الأشجار في النافذة، وكانت ابنة الشاعر ساكتة طوال حديثنا. ساكتة وساكنة ومضيئة مثل شمعة. قلتُ: «إن فكرة القومية العربية ما هي إلا غطاء حاول الحكام به سترَ خيباتهم وفشلهم وقلة خبرتهم بأمور الحكم، وهم يرفعون هذا الشعار دائما، لأنه البالون أو المنطاد الذي يهبطون به إلى أرض أمينة كلما امتدت الحرائق من حولهم».
قال أدونيس:
«كنا طلاباً في المرحلة المتوسطة، وكان مدرس التاريخ بعثي الانتماء، وهو يدور بين الرحلات في الصف يقرع الأرض بقدميه أكثر حين يقول: كلكامش، أنكيدو، السومريون، الفينيقيون، وغيرهم، هؤلاء جميعاً علينا أن ندوس على ذكرى عظامهم المدفونة في أرضنا العربية».
دام اللقاء بيننا أكثر من ساعة، ثم ودعتُ الشاعر، واتفقنا على أن أزوره في المرة المقبلة، وكان السؤال المباغت لنا نحن الاثنين: «وأين يلتقي اثنان لا وطن لهما؟».

كاتب عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول حمود ولد سليمان /غيم الصحراء:

    مقالك ممتع أيها الشاعر الجميل
    حيدر المحسن
    شكرا جزيلا ?

  2. يقول علي الأزهري:

    تحية عطرة لك استاذ حيدر المحسن . مقالك الوهاج هو بمثابة ومضات فكرية حضارية تأتي من أقاصي الكون لتضيء دياجير ثقب عروبتنا الأسود . نوّرْتْ علينا. اللهم لا تحرمنا ومضاتك ونعيم روضاتك.

إشترك في قائمتنا البريدية