مع الجوائز

بعض الجوائز تثير كثيرا من اللغط خاصة بعد أن تظهر نتائجها.. وأكثرها هي جائزة البوكر العربية. لا أعرف سببا محددا لذلك، فلكل أسبابه، قد تكون لعدم فوزه، وقد تكون لقلة قيمة العمل الفائز عن غيره، وأنا شخصيا توقفت عن التعليق عليها منذ دورتها الثالثة أو الرابعة لا أذكر، لأن صحافيا شابا أحبه حين سألني عن إعلان عدد من الكتاب مثل رضوى عاشور وجمال الغيطاني، رحمهما الله، أنهما لن يتقدما إليها فقلت له هذا أمر يخصهما ولست ضده، وحين نشر التحقيق وجدت فيه على لساني هجوما على الجائزة لم أقله.. لم أشأ أن أصحح له المعلومة، ليعيد نشرها فقد كان في بداية حياته، لكني صححتها في حوارين أحدهما في صحيفة «الأهرام العربي» والثاني في مجلة «الإذاعة والتلفزيون»، واعتبرت أن الأمر انتهى، وبالفعل بدا لي أن الأمرانتهى.
تقدمت إليها مرتين بعد ذلك في إحداهما ظهرت في القائمة الطويلة، وفي الأخرى لم أظهر فيها، لكن تظل هناك أسئلة تثيرها الجائزة نفسها حين تعلن عن المرشحين للفوز. الإعلان عن الجائزة يكون على طريقة عدد ممثلي كل دولة، وأن هناك حرصا على كتابة اسم الدولة أمام الذي تم اختياره في القائمة. هذا يثير سؤالا، هل يتم تقسيم الجائزة بين الدول العربية، بينما الروايات كلها بلغة واحدة. سؤال آخر تثيره تصريحات اللجان، حين تتحدث عن اختيار الشباب أو المباهاة بذلك، والسؤال هو هل هي جائزة للعمر؟ أم للجديد في الكتابة الأدبية شكلا وموضوعا. وفي مصر يثور سؤال لماذا قل عدد ممثليها في القائمة الطويلة مثلا. هل خلت من الكتاب المميزين؟ ولماذا يتكرر اسم دور نشر بعينها في كل مرة، وفي مصر دور نشر أخرى مهمة تصدر إصدارات جيدة جدا شبه غائبة، باختصار لم أعلق على أي من هذا لأن التعليق عليه سيفسد الود بيني وبين كثير من الكتّاب، وكثير من دور النشر، وليس الود مع الجائزة، من فضلك، فهذا لا يهمني.
انتقل الأمر إلى سؤال هل صارت الجوائز سببا في الإقبال على الرواية، وهنا أجبت وكانت إجابتي أن هذا حقيقي. لقد انتقل إليها شعراء وصحافيون ونقاد، وأنا لست ضد ذلك فأنا من زمان مؤمن بالتنقل بين الفنون، وقد كتبت مقالات نقدية، ومقالات سياسية، وكتبت شعرا على لسان بعض شخصياتي في بعض رواياتي، وقمت بالترجمة أحيانا وكتبت للدراما. المشكلة في الناتج، وهل هو جيد أم لا؟ وليست الجوائز وحدها سببا في الانتقال إلى الرواية، لكنها أيضا نسبة مبيعات الرواية إلى غيرها من الأنواع الأدبية الآن، فقد صارت الرواية هي الأكثر مبيعا من غيرها، ليس في العالم العربي فقط، لكن في كل الدنيا، بل أضيف أنه قد دخل حقل الرواية أناس يستأجرون من يكتب لهم. انتقل السؤال إلى هل صارت الجوائز سببا في ركاكة كثير من الكتابات الروائية؟ هناك رأي سائد يقول ذلك، خاصة أن الجوائز كثيرة وكل عام، ما قد يدعو إلى العجلة في الكتابة، لكني لم أتحدث فيه لأني لا أقرأ كل ما ينتج ولا نصفه ولا حتى ربعه. ليس موقفا من أحد لكن تغلبني العادة مع التقدم في العمر فاقرأ لمن تعودت عليهم أكثر، وربما أيضا أنسى مع انشغالي بكتابة رواية، مما لا يعطيني فرصة القراءة بغزارة، كما أني لست منشغلا أن أكون ناقدا. وأحيانا تقفز إلى روحي أسئلة عبثية من نوع، لقد قرأنا وكتبنا كثيرا فماذا حدث لهذا العالم. لقد خرجت إلى الدنيا وحولي كل الشعارات تدعو إلى الوحدة العربية، وانتهى الأمر إلى حروب عربية عربية وانهيارات في دول عظيمة مثل العراق وسوريا واليمن وليبيا وغيرها، وشتائم على المثقفين، كأننا كنا ندير الحكم في هذه البلاد، أو غيرها، ممن تدخلوا في انهيارها، وتحميل الكتّاب كل ذنوب الساسة، بينما السجون كانت وما زالت مفتوحة لهم، ولولا أن الإبداع متلازمة ربانية لتوقفت عن الكتابة. وهي متلازمة تعطي صاحبها من المتعة أكثر مما يحصل عيله من أي شيء آخر. ولو كان الله قد خص المبدعين بخاصية عدم الأكل والشرب، لاكتفوا بكتابة أعمالهم، ولم يتقاضوا أي عائد مالي عن نشرها.

رأيت مع التطبيع بين الإمارات وإسرائيل أصواتا تنادي بمقاطعة جائزة البوكر والشيخ زايد ولايكات إعجاب كثيرة. كنت أعرف أن الأمر سيمرّ فأكثر الكتاب الآن ابتعدوا عن السياسة.

الذي يجعلني لا أهتم بالتعليق على الجوائز هو ما جرى لي مع الجوائز. كانت أول جائزة عام 1969 عن قصة قصيرة فازت بالجائزة الأولى على مستوى الجمهورية لنادي قصة أقامه وقتها في الإسكندرية الصحافي فتحي الإبياري. كانت الجائزة ثلاثة جنيهات. ما أسعدني هو أنها نشرت في صفحة كاملة في جريدة «أخبار اليوم» مع مقدمة لمحمود تيمور وما أدراك من هو محمود تيمور، فاشتريت بالثلاث جنيهات نسخا من الصحيفة وزعتها على الناس. كما حولها فتحي الإبياري إلى سهرة إذاعية في صوت العرب. كانت هذه هي بداية تفكيري في الرحيل إلى القاهرة، وهو ما حدث في ما بعد. مرّ أكثر من ربع قرن وفزت بجائزة نجيب محفوظ من الجامعة الأمريكية، وكان أول عام للجائزة وبلا تقدم لها، وهنا انفتح الجحيم. ثارت الدنيا من بعض الكتّاب واتهموني بالعمالة لأمريكا، وحديث طويل لن أعود إليه كتبته في كتابي الأخير عن «الأيام الحلوة». مشت الجائزة بعد ذلك وحتى الآن والحمد لله ولم يُتهم أحد بشيء. الهجوم أكثره شخصي وليس موضوعيا. هذه خبرتي يؤكدها ما حدث بعد عشرين سنة، حين فزت بجائزة كتارا في دورتها الأولى مع غيري من العالم العربي، واتهمني البعض بالعمالة من جديد لكن لقطر، ولم تكن العلاقات سيئة بين مصر وبينها بعد، ولا بين الخليج وقطر، ومن يومها فاز في كل عام كاتب مصري لا يتهمه أحد بشيء، وتنهال عليه التهاني على الفيسبوك. تأكد لي ما أعرفه وهو أن الأمر شخصي.
الحمد لله حين فزت في العام التالي بجائزة الشيخ زايد لم يتهمني أحد بشيء، وكتبت أنا عميل لمن الآن؟ رواياتي وكتبي هي التي تفوز وليس أنا يا بشر. رأيت مع التطبيع بين الإمارات وإسرائيل أصواتا تنادي بمقاطعة جائزة البوكر والشيخ زايد ولايكات إعجاب كثيرة. كنت أعرف أن الأمر سيمرّ فأكثر الكتاب الآن ابتعدوا عن السياسة. كما أننا في مصر آخر من يتحدث عن ذلك، فدولتنا هي أول من قام بالتطبيع ونحن نحصل على جوائزها في سعادة، وأضيفت إليها جائزة عربية الآن. تأكد لي ما فكرت فيه، وها هو الفرح حولنا بالمرشحين للفوز بالبوكر. أحيانا أضحك وأقول لو كنت تقدمت وظهرت في القائمة الطويلة لظهر موضوع التطبيع من جديد! عدم تقديمي أنقذ الجائزة من حديث التطبيع. أقول لنفسي ذلك وأضحك، والذي يجعلني أفكر هكذا هو ما جرى لي من قبل طبعا.
في النهاية تظل البوكر الأكثر اهتماما بين الجوائز، لأنها تفتح باب الترجمة، ولعل أصحاب الجوائز الأخرى يفكرون في ذلك. لن أقول مصر لأني طلبت ذلك من وزارة الثقافة المصرية كثيرا ولا فائدة. أعني أن تكون جوائزها مصحوبة بترجمة الأعمال الفائزة. أعرف أن الترجمة مع البوكر قلّت الآن عن سنواتها الأولى، ورغم ذلك تحظى بالاهتمام الأكبر. باختصار موضوع الجوائز هذا لا قاعدة له لا في الفوز ولا في الهجوم على الفائزين. وما كتبته هنا من أسئلة حول البوكر هو مجرد أسئلة وليس رأيا نهائيا. والجوائز كما أردد دائما مثل الزواج قسمة ونصيب. وللذين لم تظهر رواياتهم في القائمة أقول من قال إن حياة الأعزب سيئة؟ هو الذي لا أحد يعرف كم عرف من النساء!

روائي مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول محمود السامرائي:

    والمنتقدون أنفسهم ينتظرون فرصة الفوز لا أكثر.

  2. يقول علي:

    أظن والله أعلم أن الجوائز في عالمنا العربي مربوطة اليوم بالمواقف السياسية،والتوازنات الإقليمية،وقد قالها مسئول راحل عن الكتاب في دولة من دول الأعراب:من يخالف سياستنا لا يستحق جائزتنا!
    هناك شروط غير معلنة للجوائز في الأعمال الفائزة:. أن تعادي الإسلام،أن تروج للمثلية والإباحية، أن تبث اليأس والإحباط في النفوس. أن تهيئ لقبول العدو الصهيوني والاستسلام لوجوده الاستيطاني، من خلال الحديث عن إنسانية الصهاينة، أن تسحق اللغة العربية ولا تبالي بجمالياتها، أن تجعل الإسلام مرادفا للإرهاب، أن تبرز وحشية الإسلام في العلاقات الإنسانية.ا، يونالعمل في أفضل الأحوال باهتا منزوع الدسم الفكري. هذا والله أعلى وأعلم.

  3. يقول أسامة كلّيَّة سوريا/ألمانيا Ossama Kulliah:

    شكرًا أخي إبراهيم عبد المجيد. لفتني هذا التعامل الواقعي مع الجوائز الذي حصلت عليها, ربما نقطة ساهمت في الحصول على هذه الجوائز فالواقعية تعطي بعض المرونة مما يسمح بتقبلها من أطراف متعددة. لاأخفيك أنني واقعي لكن في علم الفزياء, ولاأرى أن الواقعية يجب تتخطى مايسمى المبادئ دون توجيه اللوم لرأيك بالتأكيد, لكن المرونة يتم أحيانا استغلالها من بعض الأطراف فتؤدي إلى أهداف أبعد من المقصود بها. مثلًا جائزة نجيب محفوظ!. نقطة أخرى واسمح لي تيمنًا بإسلوبك المهذب الذي عودتنا عليه, أن أسأل لماذا ترى أنه هجوم شخصي, أليست هي نفسها تلك الأطراف التي تبادر إلى استغلال (هذه) الواقعية لتحقيق مأرب سياسي! في النهاية معك حق المبدع لايهتم إلا بإبداعه رغم هذه المعضلة الحياتية مع السلطة والجوائز والنشر وشهرة أعماله. إنها جزء من معضلة المثقف العربي اليوم عمومًا.

إشترك في قائمتنا البريدية