في خريف 1967 قدّم خورخي لويس بورخيس في جامعة هارفرد ستّ محاضرات حول «صنعة الشعر». لم يستعن لذلك بملاحظات مكتوبة، إذ كان بصره قد ضعف، إلى حدّ أنه لم يعد قادرا على القراءة. كان يتكلم وهو ينظر إلى أعلى، «فكان يبدو كما لو أنه يبلغ، ماديا، عالم النصوص التي يقتبس منها». وكانت هذه النصوص كثيرة متنوعة تعود إلى آداب وثقافات ممتدة في الزمن، ومتسعة باتساع لغات كاتبيها.
أدبا الإسبانية والإنكليزية أولا، ولهذه الأخيرة كان ملمّا إلماما واسعا بزمنيها، حيث في اقتباساته، كثيرا ما قارن بين هاتين اللغتين، الإنكليزية القديمة والأخرى الحديثة، مظهرا الفروق بينهما، وصلة ذلك بالتعبير الشعري. ولنضف إلى اقتباساته هذه ما أخذه من الفرنسية والإسكندنافية واليونانية القديمة والصينية والفارسية، وأيضا العربية التي عاد إلى ترجمتها لكتاب «ألف ليلة وليلة» أربع مرات على الأقل في هذه المحاضرات.
في المحاضرة الأولى «لغز الشعر» ذكر لسامعيه أنه حينما يفكّر في الكتّاب الكبار «أحاول أحيانا أن أحاكي، بصوتي، أصواتَهم» (تماما كما كان يفعل حين يتذكر أباه) كأنه بذلك يفكّر بالطريقة التي فكّروا بها لحظة اهتدائهم إلى ما نقلوه إلى الكتابة. ومثلما كان مولعا بما يقتبسه من الكتب، حافظا إياه عن ظهر قلب، كان يميل إلى تعيين مراحل الأدب وحقبه، كما حين يقول إن فكرة الكتابة المقدّسة جاءت من الشرق. فحسبه أن المسلمين يعتبرون القرآن سابقا للغة، ليس «عملا من أعمال الله، وإنما صفة لله، مثلما هي عدالته، ورحمته، وحكمته غير المتناهية».
وهو لا يميل إلى تكوين نظرية عن الشعر، ففي المحاضرات يترك للنصوص المستذكَرة وحدها أن تتفتّق عن الجمال.
سواء في تناوله للاشتقاق اللفظي، أو في سعيه للاهتداء إلى لحظة الشعر، أو في تقديره لصوابية الترجمة أو جماليتها، يقوم بذلك من طريق كشف هذه النصوص ومقارنة بعضها ببعض. لا يحب النظرية، بل يحب ما تحمله الكلمات: «كلما تصفحت كتابا في علم الجمال راودني إحساس مقلق بأنني إنما أقرأ أعمالا لفلكيين لم ينظروا إلى النجوم قط».
ولهذا نرى أنه لا يحبّذ أن يُعرّف الشعر، كل تلك الجمل التي تقلّص المعرفة بالشعر لا تؤّدي إلا إلى إنقاص الإحساس به. يستعير لفكرته هذه ما قاله تشيسترتون مرة: «إننا لا نستطيع تعريف شيء إلا عندما لا نعرف أي شيء عنه».
لا يحبّذ أن يُعرّف الشعر، كل تلك الجمل التي تقلّص المعرفة بالشعر لا تؤّدي إلا إلى إنقاص الإحساس به. يستعير لفكرته هذه ما قاله تشيسترتون مرة: «إننا لا نستطيع تعريف شيء إلا عندما لا نعرف أي شيء عنه».
أما في صياغته هو (بورخيس) فإن في تعريف الشعر استحالة هي ذاتها التي تعجزنا عن تعريف مذاق القهوة، أو شعورنا تجاه اللون الأحمر أو الأصفر، أو الكراهية، أو تأثير الغروب فينا. وهو يذهب في ذلك أيضا إلى قول للقديس أوغسطين: «ما هو الزمن. إذا لم تسألوني ما هو، فإنني أعرفه. وإذا ما سألتموني ما هو، فإنني لا أعرفه».
المثير في هذه المحاضرات هو «اكتشاف» بورخيس أن الاستعارة، التي هي أحد أركان الشعر، تقوم على أنماط مكرّرة. هناك دزينة من الاستعارات الأصلية التي منها ذلك التشبيه الكلاسيكي للعيون بالنجوم، أو مشابهة جريان الزمن بجريان النهر، أو تشبيه النوم بالموت، إلخ. حسب بورخيس لم يبتكر الشعراء استعارات تخرج عن الأنماط الإثني عشر هذه. أكثر ما تمكنّوا من فعله هو «اللعب» على هذه الأنماط وإدخالها في تنويعات خفيفة. وإذ يرجع إلى أصل الكلمات يرى أن الكلمة في حدّ ذاتها، وقبل اتصالها بكلمة أخرى، هي استعارة. ذلك ما يراه أحدنا هنا حين يرجع إلى منشأ الكلمة في «لسان العرب» ليجد أن الاسم ليس إسما ثابتا، بل هو حافظ لحركة ما لم تلبث أن تصنّمت بكلمة. كما يذكّرنا بورخيس، حين يأتي على ذكر تاريخ الاستعارة، أو بدايتها، بما درجنا على اعتباره الاستعارة الأولى في اللغة العربية، تلك التي سبقت قول أبي تمام «وأثبت في مستنقع الموت رجله». تلك كانت «واخفض لهما جناح الذلّ».
هو، الرجل القديم كما يقول عن نفسه، يحب العودة إلى زمن الملحمة، حيث الشعر يُلقى ويُنشد. ثم أن شخصيات الملاحم أبطال، وهذه الصفة النبيلة يصعب إطلاقها على شخصيات الروايات، إذ هم منكسرون غالبا، محطّمون في افتراق تكوينهم عن الزمن الذي هم موجودون فيه. «المهم في الملحمة هو البطل: إنسان هو نمط لكل البشر. بينما جوهر معظم الروايات، كما يشير مينكين، يستند إلى إخفاق إنسان، إلى انحطاط الشخصية وترديها». هذا الانكسار واختلال العلاقة بين الشخصيات وزمنها، هو سمة عامة في الدراما الحديثة، وقد بدأتها رواية سرفانتس التي ذكرها بورخيس مرات عدة في فصله عن الرواية.
أما في ما خصّ الترجمة، وقد أفرد لها واحدة من المحاضرات الست، فهو يميل، في السجال القائم المستمر بين الداعين إلى تغليب ترجمة المؤلف على الترجمة الحرفية، إلى تأييد الثانية: «إن شطرا من الجمال الاستثنائي للكتاب المقدس بالإنكليزية يكمن في الترجمة الحرفية». لكنه يشكك مع ذلك في إمكان أن تتمكن الترجمة من بلوغ المعنى في النص الأصلي، يقول: إذا كان من غير الممكن للترجمة أن تكون أمينة للأصل كلمة فكلمة، فإنها ستكون أقل أمانة حرفا حرفا. ذلك يشير إلى حرص بورخيس على عدم تفويت ما يتصل بالمعنى الشعري، حيث ليست الكلمات ناقلة للمعنى، بل هي حاملة لأشياء أخرى بينها الإيقاع وسحر الدلالة اللفظية والأصداء العاطفية للكلمات…
*كتاب «صنعة الشعر» لخورخي لويس بورخيس كان نقله عن الإسبانية صالح علماني الذي رحل منذ أيام قليلة. صدر عن منشورات الجمل في 166 صفحة- 2019.
٭ روائي لبناني
موقف بورخيس من بطل الملحمة الصنديد و بطل الرواية الذي يواجه بؤس العالم، وأحيانا يجر بعضه بعضا، ليس وليد رؤية جمالية مطلقا، بل هو نتاج رؤية إيديولوجية مترسخة لديه، وتحكم كل سطر من كتاباته. فبورخيس يفتخر بأنه أرستقراطي أبا عن جد، وبأن الجنس البشري تحول إلى حثالة كلما إبتعد عن النبع هذا ! وهو يكره كل ما له صلة بالشعب ! وكثيرا ما قال إن الحياة تفسد بمجرد أن يتجاوز المحيط بك 3 أشخاص ! وكان تعيسا في آخر حياته لأن الأرجنتين اختارت الديموقراطية بديلا عن الحكم الوحيد الذي يليق بها في رأيه، أي حكم الطغمة العسكرية بقيادة بديلا ! وكان غاضبا من تنظيم كأس العالم في الأرجنتين وهدد بمغادرة البلاد، لأنه مناسبة تسمح بجمع الآلاف في ملعب واحد ! وهاجم بريطانيا، ليس لانها محتلة لجزر المالوين، بل لانها اكتشفت كرة القدم ! وكان يلوم امريكا لانها لم تحسم معركتها ضد فيتنام بالقنابل النووية، وطالب باستمرار الحصار على كوبا، وتأسف لأن استقراطية بيونس ايرس غمرتها الكثل البشرية السافلة !
لا غرابة أن يقعى تقريعا على رواية دون كيشوط لأنها ببساطة، حسب النقاد، هي المؤسسة لما يعرف بالعصور الحديثة التي أهالت الثراب على أبخرة الأرستقراطية !
طبعة جديدة من ـ صنعة الشعر ـ عن الدار المذكورة في آخر سطر. السؤال هل هذه الطبعة تمّت بعلم المؤلف وموافقته؟ ومعروف ان هذا الكتاب قد صدر عن دار المدى سنة 2007 في طبعة أولى.. كما هناك طبعة ثانية منه منشورة منذ خمس سنوات لدى المدى أيضاً. علماً إن صورة لغلاف المنشورة هنا تعود لطبعة المدى.. وشكراً.
شكرا …
عرض جميل و مبهر و ثري..كأنني استمعت إلى بورخيس في محاضراته..