مغنو المهرجانات: المجتمع المتغير وأوهام طبقةٍ محتضرة في زمن الحصاد

بينما يقبع عشرات الآلاف من الناس، على اختلاف أعمارهم وخلفياتهم الفكرية والمذهبية في سجون السيسي، كثيرون منهم لأسبابٍ غامضة يتم جمعها في جوالٍ فضفاض كتب عليه «معارضة النظام»، يتآكلون ويتعفنون بالمعنى الحرفي للكلمة، ويعانون من سادية نظامٍ يرفض منحهم أبسط حقوق الآدميين، في الرعاية الصحية والمعاملة الكريمة والمحاكمات العادلة بحق، ارتأى نقيب المهن الموسيقية هاني شاكر أن يفجر معركةً عجيبةً غريبةً في توقيتها، بمنع التعامل مع مغني المهرجانات، وهو
بهذا يجري (لا أستطيع أن أجزم أعن عمدٍ أم لا ) وفقاً لنمطٍ بات سائداً، نُجر بموجبه إلى معارك لم نخترها، معارك يحسبها النظام صغيرة تموه على جرائمه الكبيرة،
غير أنه في هذه لم يدرك أنه قد يفتح المجال لردات فعلٍ متباينة العمق، حامت في مجملها على محوري الأخلاق والفن والذوق الرفيع.
ومن ناحيةٍ أخرى على محور حرية التعبير، ولم تعدم من رأى في هذا النوع من الفن مؤامرةً على الفن الرفيع، وقيم المجتمع والأخلاق، جرياً مع عادةٍ باتت متأصلة ترى كل شيءٍ في الكون متآمراً علينا (لا تسل علام!)، وفي رأيي أن الظاهرة، وما يمكن أن يقال فيها أكبر وأعمق من أي تحليلٍ أحادي يتناول جانباً ويهمل الآخر.
بدايةً لا بد أن أعترف بأنني لا أتذوق ولا أنسجم من تلك الأغاني، بيد أن ذلك راجعٌ بالأساس لخلفيتي ونشأتي، وما صاغت من مشاربي في الأدب والفن والموسيقى، وإنني على ذلك لا أوافق على المنع، بل على العكس أرى أن التعامل مع تلك الظاهرة ينبغي أن لا يدور على محور الحب/ الكره، وإنما في ضوء تحليل ما تمثله بدلالاتها.
وعلى ذلك نحن أمام صراع طبقاتٍ بامتياز، باقتصادياتها ومفاهيمها وتعبيراتها عن نفسها، واقعها ومشاغلها وأحلامها وآلامها.

لم يتبق للسيسي وطبقته سوى أن يبنوا جدراً تعزلهم عن الناس ومتى يفهمون حقيقة الحراك والتغيرات الاجتماعية؟

الذين يستمعون

لعل أول سؤالٍ لا بد أن نطرحه هو: من تخاطب تلك الأغاني؟ من جمهورها؟ هذا هو المفتاح. طوال ما يقارب الخمسة عقود، مذ بدأ النظام المصري على زمن السادات ينحاز صراحةً إلى الأغنياء والذين يملكون، متملصاً شيئاً فشيئاً من التزاماته، ومفرغاً شبكة الضمانات من أي مضمونٍ ذي معنى، تفاقم الفقر، متزامناً مع الانفجار السكاني نتيجة متغيراتٍ اقتصادية ليس هنا المجال للخوض فيها، والمحصلة التي وصلنا إليها مستنقعاتٌ واسعة من العشوائيات والفقر، نبتت بلا أي تخطيطٍ، وفقاً لمقتضيات الحال، خارج الاهتمام. كثيراً ما نسمع أفراد الطبقة المخملية يتحدثون عن العشوائيات والأحياء الفقيرة بقرفٍ وتعالٍ، ولعله وجب التذكير بأن العشوائيات ليست مجرد مساحاتٍ في الفضاء، وإنما هي مجموعاتٌ ضخمةٌ من الناس، كتلٌ بشرية، تولد وتأكل وتشرب وتتناسل وتمرض وتموت، كغيرها من الناس في الأحياء الأغنى والمنظمة.. أي والله هم ينتمون إلى الفصيلة نفسها، وإن لم تعجبهم أشكالهم وأزياءهم و»مهرجاناتهم».
ولزم التذكير هنا بأن ساكني العشوائيات والأحياء الفقيرة، ليسوا كلاً متجانساً متساوياً، وإنما تفصل بينهم تفاوتاتٌ طبقية، وفقاً للدخل والمهنة والتطلعات والحظ من التعليم، بيد أن الأكيد أن ثمة شرائح عريضة لم تنل منه شيئاً، ولما كانوا بشراً فهم بحاجةٍ للغناء والرقص، للترفيه عن أنفسهم، هم يعيشون في محيطهم الطبيعي، مع من هم على شاكلتهم، يشاركونهم هموماً متماثلة، وهم يفرزون رؤىً وأفكاراً وأحلاماً نتجت عن وضعهم، وبالتالي فليس غناؤهم ورقصهم فقط بالمختلف، وإنما منظومتهم القيمية أيضاً، وهي أيضاً بنت الواقع. كثيرون منهم لا يطرب لغناء أم كلثوم، ولا يفهمون الأطلال، ولا يعني لهم ذلك «الفن والغناء» الذي يدافع عنه هاني شاكر شيئاً، وقد لا يعبر عن بعضهم على الإطلاق (ناهيك من أن الكلام نفسه قد يقوله آخرون أكثر ثراءً في إيقاع الحياة المعاصرة) بل لست مبالغاً إذ أزعم أنهم بما يغنون أكثر اتساقاً مع أنفسهم، إذ يعبرون عن واقعهم وأحلامهم ورغباتهم من الذين يودون منعهم، يعبرون بصدق بدليل ذلك الجمهور الذي يحفل بهم، وهم يفعلون ذلك بتلقائيةٍ وعفويةٍ، بدون تصنعٍ أو أقنعة أو أوهامٍ عن الذات.

المنع

لكل ما سبق، تتبين حماقة استخدام سلاح المنع، إذ مبدئياً هو لم يفلح أبداً من قبل، وثانياً وهو الأهم، فهؤلاء المغنون وجمهورهم خارج كل تلك المنظومة الرسمية في الأساس، وخارج أي حساباتٍ للنظام، سوى في ما يخص الشق الأمني، وعلى هذا تراهم يدركون جيداً أن العلاقة الوحيدة التي تربطهم بالحكومة، هي علاقة عداءٍ في الغالب، وتربص ومصالح مشتركة في أحسن الأوضاع، كما أنهم ليسوا في حاجةٍ لختم جودة هاني شاكر أو نقابته، وبالتالي فأنا أستطيع أن أؤكد بثقةٍ شديدة، أن أغانيهم وجمهورهم سيستمران، وسينحصر أي تغييرٍ يطرأ عليهم (إن حدث) في تغييراتٍ شكلية لن تغير من المضمون شيئاً، بل قد تجعلهم لا مغنين فقط، وإنما قد ترفعهم إلى مصاف الأبطال أيضاً!

الذين يمنعون

هؤلاء مشكلتهم مشكلة، بل هم المشكلة بأل التعريف، فمصر تحكمها طبقةٌ، هي البورجوازية المصرية، وما تحلق حولها وتعلق بها من شرائح وطفيليات، لكن لك أن تسمها ما شئت، تصر على أن لا ترى الواقع، وتتشبث حتى الرمق الأخير، بأوهامٍ عن الذات منبتة الصلة بذلك الواقع؛ تضع أمامها، صوب عينيها وحولها صوراً مثاليةً لنفسها، فهي مبدعة متدينة خلوقة رحيمة، وإسلامنا وسطيٌ معتدل لا ذاك الوهابي العنيف الذي تعتمده وتروجه المملكة السعودية، وفننا راق، ونظامنا ليس عنيفاً دموياً كالسوري أو العراقي زمن صدام، هم يرون الانفجار السكاني، يتحسرون ويذيبهم ويعذبهم الحنين للناس الأوجه الأكثر أناقةً، للشوارع الألمع والأحياء الراقية التي كانت، ولا يريدون أن يروا أن تلك المحصلة البائسة ليست إلا نتيجةً، حصاداً للوصفة الاقتصادية والطريق التي سار البلد فيها. بيد أنها عوضاً عن إيجاد حلٍ للمشكلات العالقة والمتفاقمة، اختارت العزلة والهجرة، لا الفكرية فحسب، بتجاهل الطبقات والشرائح الجديدة، ولكن المكانية أيضاً في التجمعات الجديدة المبوبة في التجمع الخامس والسادس من أكتوبر، والساحل الشمالي، لتعيش واقعها المغاير المعلب في تلك الفقاعة.
لم يروا النتيجة: جزراً صغيرة من الرفاه والوفرة يعيشون فيها بالكاد، تطفو على محيطٍ من الفقر والعوز، وها هو يغزوها ويقتحم خلوتها وعالمها بصوت مهرجاناته العالي، يعيدها إلى الواقع الحقيقي الرث، يحطم أوهامها ويهدد منظومتها القيمية.
وجهٌ آخر للخلاف بين تلك الطبقة وشعب المهرجانات هو النفاق، فإعلاميو النظام الذين ينعون على الأولين البذاءة وانعدام الأخلاق، ينالون من خصوم النظام والسيسي بأبشع الألفاظ، وأكثرها انحطاطاً وبذاءة، ويتهمون كثيراً من أعدائه بالمثلية كما لو كانت سبة.
الأهم من هذا وذاك أن السيسي لم ينمُ إلى علمه بعد مفهوم «الجملة المفيدة» ويتحدث عن نفسه باعتباره فيلسوفاً حكيماً، أليس في هذا التجاوز والتنطع مثيلاً معادلاً لبذاءة المهرجانات؟ أليست ادعاءات النظام بالإنسانية بذيئة؟ وبماذا نسمي الكبابجي والرفاهية في السجون سوى بالبذاءة؟ ومع ذلك فإن إعلاميي النظام الذين يهاجمون المهرجانات يتغنون بحكمة السيسي ومحافظيه، الذين سمعنا منهم العجب عن اتجاه الرياح وتأثيرها في الصواريخ الباليستية، على سبيل المثال لا الحصر.
كما أن الفن «المحترم» أتحفنا بـ»الدنيا سيجارة وكأس» لعبد الوهاب موسيقار الأجيال، و»أنا عاوزة اتجوز ميكانيكي»، وبالطبع فليست لديّ أي مشكلة مع ذلك الطموح، ولكنني فقط أنوه بأن الفن والمجال اتسع للتباين حينذاك. والمدهش ومثار التناقض الأوسع في حقيقة الأمر، أن النظام والطبقة التي تعتمد الحرية الاقتصادية بطبعتها النيوليبرالية الأشرس، ترفض الحرية وتختار السلطوية في التعبير والسياسة والنظام، الذي تنصل من كل التزاماته الاقتصادية والاجتماعية، ينصب نفسه راعياً للأخلاق!

هل هي ظاهرة جديدة؟

أن تنتج طبقاتٌ أو أعراقٌ فناً جديداً أو أسلوباً جديداً للتعبير لنقل، فليس ذلك بالجديد، ولعل المثال الأقرب إلى ذهني الـ»بلوز» والجاز في أمريكا، عبر من خلالهما الزنوج عن معاناتهم وحياتهم وإيقاعهم الخاص، ثم غزوا المجال الأوسع، حتى صارا مزاجاً عاماً، وأقرب من ذلك الـ»راب». ليس هناك من ثابتٍ في الحياة، هذا ما ترفضه الطبقة الحاكمة والمحافظون الذين يدعمون مزاجياً قرار المنع، ولما كان المجتمع بطبقاته في حالة سيولة، ولما كانت طبقاتٌ جديدة تبزغ للوجود، فإنها وما تعيشه من تفاعلٍ وتخمرٍ ستعبر عن نفسها لا محالة وبغض النظر عن اختيارنا صم آذاننا والنظر بعيداً. ستخسر معركة المنع، وأبقى الله هاني شاكر ومن وراءه ذخراً للمعارك الخائبة ليثبتا كم بلغت البورجوازية المصرية من الإفلاس.
في النهاية سيفرض الواقع نفسه ولم يتبق للسيسي وطبقته سوى أن يبنوا جدراً تعزلهم عن الناس، أو يقصف العشوائيات والفقراء بالطيارات، وهو ليس بالضبط بعيداً عن ذلك. لكن يبقى السؤال الأبدي دون إجابة: متى يفهم النظام ومناصروه حقيقة الحراك والتغيرات الاجتماعية؟
كاتب مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول S.S.Abdullah:

    فلسفة نظرية المؤامرة، في سياق الزمان والمكان، في الدفاع عن الفرعون ومن حوله، ممثلي الوظيفة/المقاولة في دولة الحداثة، يلخصها ما ورد تحت عنوان (مغنو المهرجانات: المجتمع المتغير وأوهام طبقةٍ محتضرة في زمن الحصاد) بكل ابداع وفن المُثقف الأكاديمي (د يحيى مصطفى كامل)، على صفحات موقع جريدة القدس العربي في عام 2020، والأهم هو لماذا؟!

    هل الإقتصاد أولاً أهم، أم النظام البيروقراطي أهم، في أجواء العولمة والإقتصاد الرقمي الإليكتروني لعقلية الآلة (الروبوت)؟!

    خصوصاً بعد تعيين في الإمارات العربية المتحدة نهاية عام 2016 أول رجل أمن (روبوت) وأول طبيب (روبوت)، وفي السباق معها في دول مجلس التعاون في الخليج العربي (السعودية) في نهاية عام 2017 أعلنت في مشروع نيوم عن تجنيس أول روبوت (كمواطن)،

    والغرض واضح، من أجل تحسين مستوى الخدمات التي تقدمها الدولة،

    إلى الإنسان والأسرة والشركة المُنتجة للمُنتجات الإنسانية، لاستقطابها من أجل الهجرة/اللجوء إلى الاستثمار بها مهنياً وعقلياً ومالياً،

    ولذلك الآن من الضروري تغيير مناهج التعليم/التأهيل المهني والوظيفي، في عصر الحكومة الرقمية (الإليكترونية)، ليكون هدفها، إنتاج جيل يستطيع منافسة الروبوت (الآلة) على وظيفة/مقاولة تنفيذ أي خدمة،

    1. يقول إبراهيم الصحاري:

      يسلم فمك!

  2. يقول S.S.Abdullah:

    وإلا الإقتصاد سينهار، كما هو حال مصر في عهد حكم الرئيس عبدالفتاح السيسي، لأن أي آلة مهما كانت ذكية مثل أي عالة (في المخزن) على الدولة، لا تدفع ضرائب ورسوم وجمارك مثل الإنسان والأسرة والشركة المُنتجة للمُنتجات الإنسانية،

    ومن هنا أهمية مشروع صالح التايواني (أم الشركات)، لمن يبحث عن حلول.??
    ??????

إشترك في قائمتنا البريدية