رغم كثرة الاستشهادات المتمثلة بالوقائع كحجج لتأكيد وجهة النظرة هذه، أو وجهة النظر تلك، لكن السياسة تتقلص في السجال الذي أثير عقب رسالة كتبها مثقفون سوريون وعرب ومن العالم، ونشرها موقع «الجمهورية» تدين موقف يساريين انحازوا لأنظمة الاستبداد، عبر حصر مناهضة الإمبريالية، بأمريكا والغرب، بدون تعميمه على روسيا والصين.
فكلا الطرفين، نظر إلى الإمبريالية، باعتبارها مفهوما كلاسيكياً، له دلالة تتموضع ضمن الحمولة المعرفية النمطية، حيث الإمبراطوريات تمد نفوذها وتتوسع لاستغلال الشعوب الضعيفة، وفرض إرادتها، وتأثيرها عبر الاستعمار العسكري والثقافي والسياسي. مع فارق أن طرفا (من كتب الرسالة) دعا لعدم استخدام المفهوم بانتقائية، بحيث يستثني أنظمة ديكتاتورية، وطرفا (صحيفة الأخبار اللبنانية وأقلام يسارية كلاسيكية) عمد إلى لغة التخوين، وهدر الدم، وإخراج منتقديه من ملعب اليسار نفسه.
والسياسة مطلوبة جداً، في مقاربة مسألة الإمبريالية، لتجريد المفهوم من نمطيته، وتخفيف الأيديولوجيا عنه، حيث التدخل الخارجي في منطقتنا، وهو يحيل إلى دلالة ناقصة وسريعة في وعي النخب العربية للإمبريالية، بات مرتبطا بطبيعة التحولات داخل البلدان المتدخلة، والاستراتيجيات والسياسات، وصعود اليمين الانعزالي، ورواج الخصوصيات الثقافية، وهذا كله قد يكون دافعا للتدخل، وقد يكون مانعا له. بمعنى أن التدخل، على تماس دقيق مع تحولات المتدخلين، وليس أسير مفهوم الإمبريالية الكلاسيكية، حيث الرغبة الدائمة للتدخل، انطلاقا من الشرط الاستعماري السابق. ثمة تغير عكسي، في هذا الأمر، إذ بات التدخل عبئا على الدول المصنفة تاريخياً دولا استعمارية، ولم يعد مغرياً بسبب تحولات في أدوات مدّ النفوذ ومصادر الثروة، كذلك فإن للمفهوم صلة بأوضاع البلدان المتدخل بها، فإذا كانت، رغم أوضاعها الصعبة من حروب وكوارث، تملك قواعد عمل سياسي، وتحظى بحد أدنى من إجماع وطني، وفيها نشاط معارض عقلاني، سيصبح التدخل عنصراً من عناصر شتى، تحدد مصير تلك البلدان، وليس عنصرا حاسماً، ولكن، في حال، كانت هذه البلدان، تفتقر إلى الشروط السابقة، وتعاني فقرا سياسيا مدقعا، فإن التدخل سيعيد صوغها، بعقل بارد، من دون مراعاة حساسيات تتعلق بتركيبها الداخلي وأطماع الدول المجاورة، ما سيفتح الباب على تكرار السيناريوهات الكارثية، كما حصل في العراق.
مقياس التدخل سياسي أولا، يتعلق، بأوضاع المتدخِل وأوضاع المتدخل عليه، وليس بمفهوم كلاسيكي نمطي أيديولوجي للإمبريالية
وعليه، فإن مقياس التدخل، هو سياسي بالدرجة الأولى، يتعلق، بأوضاع المتدخِل وأوضاع المتدخل عليه، وليس بمفهوم كلاسيكي نمطي أيديولوجي للإمبريالية، يرى المتدخِل شراً دائماً، والمتدخل عليه ضعيفاً ومسيطراً عليه. شهدنا في منطقتنا في السنوات الماضية، تظاهرات عارمة تطالب بالتدخل، في ما يصنف أيديولوجيا دولا استعمارية، (الغرب) ترفض، انطلاقا من حسابات السياسات الداخلية لديها وتحولات الرأي العام، وأسباب أخرى. وشهدنا في الوقت عينه، دولا مصنفة أيديولوجيا كـ»صديق للشعوب المستضعفة» ومعادية للغرب، (روسيا) تتدخل لحماية الأنظمة.
هذه التحولات في مسألة التدخل، حتى لو كانت مرتبطة إجرائياً بمفهوم الإمبريالية، لناحية التوسع والنفوذ، لكنها على الأرجح، بعيدة عن المفهوم الكلاسيكي السابق، ثمة أوضاع سياسية تتعلق بالمتدخلين، وأخرى تتعلق بالمتدخل عليهم، وما قد يكون «استعمارا ونهبا لثروات الشعب» عند جماعة في بلداننا، يصبح بسهولة «مساعدة للدولة في الحرب على الإرهاب» عند جماعة أخرى. السياسة المختلطة بالانقسامات عندنا، والمتصلة بتحولات الرأي العام في الغرب، قد تفيد، في تفسير مسألة التدخل، أكثر بكثير من نمطية مفهوم الإمبريالية.
كاتب سوري من أسرة «القدس العربي»