مقاطعة الرياض الواردات اللبنانية تهديد بهدم اقتصاد منهار

ناصر الأمين
حجم الخط
0

يستمر التصعيد السعودي في إطار أحدث فصول التوتر في العلاقات بين المملكة ولبنان والذي بدأ برفض وزير الإعلام، جورج قرداحي، الاعتذار عن تصريح صدر عنه قبيل شهر من توليه الوزارة، وصف فيه الحرب في اليمن بـ»العبثية» معتبراً أن الحوثيين لا يقومون بشيء سوى الدفاع عن أنفسهم ضد «اعتداء خارجي».
ورداً على رفض قرداحي الاعتذار عن التصريح، قطعت الرياض علاقاتها بالحكومة اللبنانية معتبرةً أن التعامل معها «غير ذي جدوى» في ظل «هيمنة حزب الله» عليها، بحسب وزير الخارجية السعودي، فيصل بن فرحان. ولذلك، سحبت الرياض سفيرها في بيروت طالبة من السفير اللبناني لديها بدوره الرحيل أيضاً، الأمر الذي تبعتها فيه كل من البحرين، والكويت، والإمارات، واليمن. كما أعلنت المملكة مقاطعة الواردات اللبنانية، ثم منعت شركات البريد الدولية «دي إتش إل» من إيصال البريد من لبنان إلى السعودية.
والخميس الماضي، دعا رئيس «اتحاد الغرف السعودية، عجلان العجلان، رجال الأعمال والشركات السعودية إلى «إيقاف جميع التعاملات التجارية والاقتصادية مع لبنان» بتبرير «الدفاع عن الوطن». ويقدر أن عدد الشركات الخليجية المسجلة في لبنان تبلغ حوالي 214 شركة رأسمالها أكثر من 10 مليارات دولار. وتابع عجلان في تغريدة عبر حسابه على موقع تويتر: «لم يكف استهداف بلدنا بتهريب المخدرات، بل وصل التمادي بالحكومة اللبنانية إلى أن تبارك وتبرّر الأعمال الإرهابية التي تستهدف وطننا بالطائرات المفخخة». ويشير العجلان إلى محاولة تهريب 24 مليون حبة مخدر «كبتاغون» من لبنان إلى السعودية عبر وضعها داخل الرمان المصدر، في نيسان/ابريل الماضي، انتهت بمنع السعودية استيراد الفواكه من لبنان.
بطبيعة الحال، هذا «الانسحاب» السعودي (والخليجي) من (اقتصاد) لبنان ليس وليد هذه الأزمة، بل هو مستمر منذ عام 2014 تقريباً، وأسبابه ليست سياسية بحتة، ولا تتعلق فقط بـ»هيمنة» حزب الله على مقاليد الحكم، بل هي مرتبطة أيضاً بعوامل اقتصادية واستثمارية وتطورات محلية، وإقليمية، وعالمية، حولت لبنان من سوق مضاربات عقارية للمستثمر الخليجي واللبناني المقيم في دول مجلس التعاون بشكل أساسي، إلى مصدّر لبعض المنتجات الهامشية القابل للاستبدال.

سياق تاريخي

في بداية تسعينيات القرن الماضي، مع انطلاق مشروع إعادة إعمار وسط بيروت التي دمرت خلال الحرب الأهلية، لعب رأس المال الخليجي دورا مفصليا في الفورة العقارية التي استمرت حتى بعد انتهاء المشاريع الكبرى في ورشة إعادة الإعمار، إذ استبدل عملياً رأس مال برجوازية ما قبل الحرب ليصبح المحرك الرئيسي للاقتصاد الجديد، بحسب الباحث، هانز بومان مؤلف كتاب «سيتيزين حريري». هذا النموذج الريعي الجديد الذي استمر حتى انهياره في عام 2019، والذي يسميه البعض بـ»الحريرية الاقتصادية» اقتداءً برئيس الوزراء اللبناني السابق، رفيق الحريري، الذي قاد عملية إعادة إنتاج الاقتصاد اللبناني، حوّل لبنان إلى سوق للمضاربات العقارية يختبئ خلف قطاع خدمات وسياحة. يشير الباحث، فواز طرابلسي، إلى أنه بين عامي 1990 و1995 قدر أن حوالي 80 في المئة من الاستثمارات العقارية في لبنان تمت لمستثمرين لبنانيين يعيشون في الخليج إلى جانب مستثمرين سعوديين وإماراتيين. واستمرت الفورة العقارية، رغم بعض السنوات الهادئة. وبين عامي 2004 و2008 (أي حتى الأزمة المالية العالمية) تضاعفت أسعار العقارات السكنية حوالي 2.5 مرات رغم انخفاض عدد سكان لبنان بنسبة 0.4 في المئة، ومروره بأزمات أمنية، وحرب، وتقلص حجم الأسر وتباطؤ ازدياد أعدادها، وارتفاع الضرائب. وفي عام 2010 أشار الأمين العام لحركة «مواطنون ومواطنات في دولة» شربل نحاس، الذي كان وزيرا للاتصالات حينها، في أول حكومات الرئيس سعد الحريري، إلى أن وتيرة العرض والطلب في سوق العقارات لم تكن مرتبطة بالنشاط الاقتصادي، مؤكداً أن الطلب كان يأتي بشكل رئيسي من قبل غير المقيمين في لبنان، علماً أن عدد الشقق غير الشاغرة ارتفع في تلك الفترة، أي أن الطلب لم يكن متصلاً بحركة السكان الداخلية ولا بقدرتهم الشرائية.
وبحسب صندوق النقد الدولي، كانت حصة الخليج من الاستثمارات الخارجية المباشرة في لبنان، بين عامي 2003 و2015، حوالي 76 في المئة، أكثر من نصفها موجه نحو قطاع العقارات. كما أنه استحوذ لبنان ثلث استثمارات دول مجلس التعاون الخليجي في الشرق الأوسط، بحسب وليد حزبون، البروفيسور في جامعة ألاباما.
واستمرت الاستثمارات الخليجية تغذي الاقتصاد اللبناني لطالما أن الأمر كان مربحاً، فلم يكن بإمكان هذا النموذج الاقتصادي الاستمرار ما لم يتم دعمه بالقروض والهبات خلال الفترات الصعبة. ويشير صندوق النقد الدولي في تقرير يعود لعام 2008 أن لبنان تمكن من تجنب الانهيار المالي رغم ارتفاع نسبة الدين العام نتيجة عاملين. العامل الأول وصفته بـ»شبكة مستثمرين أوفياء». أما الثاني، فكان إيمان المودعين والمؤسسات المقرضة بوجود «ضمان ضمني» من قبل الدول المانحة لعدم السماح للاقتصاد اللبناني بالانهيار. وتذكر مؤسسة «كارنيغي» أنه بين عامي 2006 و2008 عقب العدوان الإسرائيلي على لبنان، أودعت كل من السعودية والكويت حوالي 2.5 مليار دولار في البنك المركزي اللبناني استجابة لاحتياجات إعادة الإعمار.
ومع حلول عام 2011 كانت قد بدأت آثار الأزمة المالية العالمية بالظهور في لبنان، إذ بدأ قطاع العقارات يشهد ركوداً لم ينته فعلياً منذ حينها. ومع انخفاض أسعار النفط، عام 2014 إضافة إلى تزايد المخاطر الأمنية في المنطقة، وتحول اهتمام دول الخليج، وخاصة السعودية، إلى إعادة إنتاج اقتصاداتها بهدف تنويع مصادر الدخل، لم يعد من مصلحة الخليج صرف الأموال لدعم سوق ضئيل لم يعد يجني أي أرباح في منطقة متأزمة أمنيا واقتصادياً. ولذلك، انتهت الاستثمارات كما المساعدات الخليجية مع حلول عام 2016 حين ألغت السعودية مساعدات بحوالي 4 مليار دولار كانت مخصصة للجيش والأمن الداخلي، وبدأت بوادر انهيار الاقتصاد اللبناني تظهر. ومنذ انهيار عام 2019 والسعودية ترفض تقديم أي دعم مالي للبنان بذريعة هيمنة حزب الله وإيران على الحكم. لكن تاريخ العلاقة بين لبنان والسعودية تظهر سبباً آخر قد يكون وراء وقوف المساعدات، وهو ببساطة أن الدعم المالي الخليجي للبنان لطالما ارتبط بمصالح اقتصادية تجعل من استمرار النظام الاقتصادي الريعي ضرورة. وهذا ليس لنفي الأسباب السياسية، بل للإضاءة على العلاقة بين الاستثمار والمساعدات.

المشهد الحالي

أما الآن، بعد 3 أعوام على دخول لبنان في دوامة الانهيار الاقتصادي، تؤكد السعودية أنه لطالما استمر هذا النموذج الاقتصادي قائماً، ستبقى بيدها مفاتيح هدمه. وفي حال استمرار المقاطعة السعودية لوارداته، من المتوقع أن يخسر لبنان، حوالي 250 مليون دولار سنوياً تتوزع على عدد من القطاعات، على رأسها المجوهرات ومن ثم الفواكه والثمار والحمضيات. ونظراً لأن إجمالي صادرات لبنان لعام 2020 بلغ حوالي 3.8 مليار دولار، إذا افترضنا أنها بقيت على حالها في عام 2021، فمن المتوقع أن تشكل خسارته للسوق السعودي حوالي 6 في المئة من إجمالي الصادرات.
وبطبيعة الحال، لا ترتبط المخاوف بمجرد حرمان لبنان من عوائد صادراته إلى السعودية، بل باحتمال تعاضد دول الخليج (وربما دول عربية أخرى) معها بحملة المقاطعة، ما من شأنه رفع الخسائر اللبنانية إلى قرابة المليار دولار سنوياً، أي 26.3 في المئة من إجمالي صادراته، بحسب بيانات غرفة التجارة والصناعة والزراعة في بيروت وجبل لبنان. ويذكر أنه في عام 2020 استأثرت الصادرات اللبنانية إلى الإمارات نسبة 13 في المئة، وهي في المرتبة الثانية بعد سويسرا التي حازت على 30 في المئة.
وفي حين أنه أكدت دول الخليج أنها لا تنوي أخذ إجراءات بحق اللبنانيين المقيمين لديها، فإنه بإمكانها عرقلة عملية تحويل الأموال إلى لبنان الذي يعتمد بشدة على تحويلات المهاجرين لجذب العملات الصعبة. ويذكر أنه من أصل 7 مليار دولار تم تحويلها إلى لبنان عام 2017 جاء 1.6 مليار دولار من السعودية، أي نسبة 22.8 في المئة من إجمالي التحويلات، فيما تبلغ التحويلات الآتية من دول الخليج عامة، بين 3 و4 مليارات دولار.
في المقابل، شهدت واردات لبنان من السعودية تراجعاً شديداً بين عامي 2018 حين بلغت حوالي 506 مليون دولار و2020 إذ لم تزد عن 183 مليون دولار، أي أنها لا تزيد عن حوالي 0.5 في المئة من صادرات السعودية غير النفطية في النصف الأول من عام 2021. بمعنى آخر، تجارياً، يمكن للسعودية أن تنسى وجود لبنان بالكامل بدون أن تتأثر بأي شكل من الأشكال، في حين أنه بإمكانها، في حال ضغطت على حلفائها، أن تمحق الاقتصاد اللبناني، وأن تزيل 40 في المئة (في أسوأ الأحوال) من عوائد صادراته.
بكلام آخر، تملك السعودية الأدوات لمنح الاقتصاد اللبناني دفعة لاستمراره على شكله الحالي مؤقتاً (كما فعلت مسبقاً) أو لهدمه بالكامل. والخطر يكمن في أن يتماهى لبنان وحزب الله في المنظور السعودي، فمع غياب الحافز الاقتصادي، لا يبقى أمامها من سبب للحفاظ عليه، وبالتالي على نظام الحكم، خاصة في حال رأت في انهياره ضرراً على حزب الله الذي يعتبر الكثيرون أنه يلعب اليوم دور حامي «الهيكل».
ورغم ذلك، لا بد من الابتعاد قليلاً والنظر إلى صورة الاقتصاد اللبناني بمعزل عن الأزمة مع الرياض. الخميس الماضي، أفاد وزير الاقتصاد اللبناني، أمين سلام، في كلمة ألقاها أمام مؤتمر نظمته غرفة التجارة الأمريكية أنه «انخفض الناتج المحلي الإجمالي للبنان من نحو 55 مليار دولار في عام 2018 إلى 20.5 مليار دولار في 2021 ما يوازي انخفاض الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للفرد بنسبة 37.1 في المئة». كما أن «60 في المئة من سكان البلاد يعيشون تحت خط الفقر، ونسبة البطالة تتراوح بين 35-40 في المئة بين الشباب».
بمعنى آخر، الانهيار مستمر بجميع الأحوال، لن تمنعه بضع ملايين الدولارات من السعودية ولا الخليج من التدهور مجدداً لأن المشكلة الحقيقية تكمن في بنية اقتصاد ريعي قائم منذ تسعينيات القرن الماضي على قطاعي المصارف والعقارات، وممول من قبل المستثمرين الخليجيين واللبنانيين المقيمين في دول مجلس التعاون ولأجلهم، وبالتالي يمنع بطبيعته إحياء القطاعات المنتجة والتي تؤمن الوظائف لسكان لبنان.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية