مقامات الهمذاني الرقمية

حجم الخط
0

المقامة نوع سردي عربي خالص، ابتكره الهمذاني في القرن الرابع الهجري (عصر التألق الحضاري العربي). واقتفى أثره الحريري وانتشر في مختلف الأقاليم العربية، من خلال كتّاب أبدعوا نصوصا في غاية الروعة، وبقي مستمرا إلى بدايات القرن العشرين.
تكمن عبقرية الهمذاني في قدرته على تحويل ما كان متداولا شفاها إلى الكتابة، لقد انطلق من جهة، من الساحة العمومية التي كان فيها الراوي الشعبي يتحف جمهوره بحكاياته وقصصه. وعمل على جعل ذاك الراوي بطل مقاماته، من جهة ثانية. فاجتمع له بذاك الانطلاق: ابتداع نوع سردي ذي جذور في السرد العربي، وبهذا الاختيار إضفاء صفة البطولة على هذا الراوي الشعبي العربي، وليس على أي شخصية أخرى. هذا الراوي صورة للمثقف الذي لم يجد له مكانا في بلاط الأمير، أو ديوان الوالي، فاختار الساحة (الحلقة الشعبية) التي تكون عادة، إما في السوق أو إلى جانب المسجد، أن يجتمع حول هذا «القاص» الواعظ، أو الراوي الفكه والساخر جمهور متنوع، ويظل يتابع سروده بعشق ومحبة، دليل على عبقريته، وثقافته الواسعة، وامتلاكه عدة إنتاج خطاب لغوي متقن بلاغيا، وعميق دلاليا، فكان هذا النوع الجديد تعبيرا عن تحول أدبي وثقافي واجتماعي، وهنا أيضا تكمن عبقرية الهمذاني.
هل يمكننا في هذا القرن الحديث عن نوع سردي جديد؟ وما هي الخصائص التي يمكن أن تتوفر فيه ليكون في مستوى ما تحقق من سمات الجدة التي عرفتها المقامة وجديتها؟ لا شك في أن القارئ يدرك أنني أقصد الرواية الرقمية. عمل محمد سناجلة على كتابة رواية رقمية جديدة، لكن ما كتب حولها من دراسات وأبحاث لا يقاس بما أنجز على غرارها من روايات رقمية، بل إن المقايسة مستحيلة، فلماذا شذّ سناجلة عن غيره من الروائيين؟ يكمن الجواب في أنه امتلك العدة المعلوماتية التي أهلته لإنشاء هذا النوع، لكن هل امتلاك العدة وحده كاف لإنتاج نوع سردي جديد؟
يستلزم بروز نوع سردي جديد شروطا جديدة على مستوى الوعي بالنوع، أولا، وبالوسيط، ثانيا، وبثقافة العصر ثالثا. وكل هذه الشروط توفرت في المقامة. الرواية الرقمية متعددة العلامات، والوسائط. كاتب الرواية العربية أحادي العلامة والوسيط. وثقافة العصر العربية ظلت أحادية وتعتمد اللغة بشكل أساسي. فأنى لنا كتابة الرواية الرقمية في غياب «الشاشة» العربية من خلال ثقافة الصورة والصوت (السينما)؟ وفي غياب ازدهار وانتشار «المسرح « (الركح)؟ لأن هذه الرواية «تطوير» لوسائط موجودة، و»تجسيد» لها عبر وسيط جديد (الحاسوب). إن هذا التحويل هو ما قام به الهمذاني وهو يخترع المقامة، تماما كما أن الروائي الأمريكي ذا الثقافة البصرية والكتابية اشتغل مع المهندس لتحويل السرد من وسيط (قديم) إلى آخر (جديد) فكانت رواياته متلائمة مع هذا الوسيط، فكان الترابط والتفاعل في هذه الرواية الجديدة قبل أن يصبح قابلا للتحقق في أنواع أخرى مثل ألعاب الفيديو، وفي السينما والمسرح.
لا يمكننا دون القدرة على التحويل النوعي، بشكل إبداعي، ابتداع نوع جديد. كتب محفوظ رواية، وكتب السيناريو، وحولت بعض أعماله إلى السينما، فساهم هذا التحويل في تطوير السينما العربية، ألا يمكن للرواية المحفوظية، مثلا، وقد حولت إلى السينما أن تكون نموذجا للتحويل الرقمي؟ ألا يمكن لهذا التحويل أن يساهم بدوره في تكوين الوعي الرقمي، ويسهم في إنتاج الرواية الرقمية العربية التي سنجد لها جذورا في إبداعنا السردي؟ لكن السؤال: من يقوم بهذا العمل؟ هل الروائي العربي «التقليدي»؟
وصفنا الهمذاني بالعبقري، لا يفهم العبقري إلا من كان مثله، أقصد الطيب الصديقي الذي حول مقامات الهمذاني من النوع السردي الكلاسيكي إلى النوع المسرحي الجديد، مبدئيا، فكان نص «المقامات» (مسرحية). وتم تحويل النص إلى خشبة المسرح، فعاينا امتزاج الشفاهي كما كان في الساحة العمومية (الحلقة) والكتابة النصية، وفن الأداء على الركح، فاجتمعت بذلك لمسرحية الصديقي عدة تتبدى من خلال «التحويل» و»التطوير» و»الإبداع» فإذا بالنص المسرحي الصديقي ينقلنا من فضاء الساحة العمومية في بغداد إلى الحلاقي في جامع الفنا في مراكش، وإذا بالتجربة المسرحية التحويلية ـ الإبداعية لا تنتج لنا فقط نصا مسرحيا جديدا، لكن أيضا تجربة غنائية جديدة، تخرجت من رحمها، مجموعتا ناس الغيوان، وجيل جيلالة وغيرهما، ويكون لها تأثير في الوطن العربي بكامله. تبين لنا تجربة الصديقي بجلاء أهمية «النوع» قبل أن يتحول إلى عدة أنواع. والذين يتحدثون عن «تداخل الأنواع» وينكرون «نظرية الأنواع» لا يمكنهم فهم هذا التحليل، وهم في ذلك لا يختلفون عمن صاروا يروجون لـ»البينية» ويقولون بـ»تداخل الاختصاصات» في غياب «الاختصاص» باعتباره الأساس والركيزة.
تفاعل الروائي العربي مع التراث (الرواية والتراث السردي 1992) فهل الروائي العربي الكتابي، كي لا أقول «الورقي» يمكنه ان يقوم بهذا التحويل؟ نجح الصديقي في تحويل المقامات، فمن يمكنه تحويلها إلى نص رقمي؟ لكي نكتب رواية رقمية لا بد لنا من ثقافة تحويل النوع، ومن الوعي بأهمية الوسائط، والقدرة على الإبداع.

كانب مغربي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية