مقاومة لا مساومة

مفهوم المقاومة ليس عصياً على الإدراك، فهي ليست انتحاراً، ولا انتحالاً. إنها إرادة مواجهة المستحيل. فالوجود بلا مستحيل عبث. إنها متضمَّنة في جوهر الوجود الإنساني، وحتى في بنية حياته اليومية العادية. لكنها لا تتجلّى بوضوح، ولا تأخذ أبعادها الأسطورية، إلا في الظروف القصوى والعنيفة، مثل التصدي الفلسطيني الشجاع للاستعمار الصهيوني الطاغي في غزة، منذ أكثر من عام، واليوم في لبنان.أفق المقاومة هو كشف نُبْل الأفعال الإنسانية المناهضة للخضوع والإذلال.. وهي من هذا المنظور، نشاط إنساني مشروع وباهر ومضيء. هي، وحدها، القادرة على قلْب الوضع اللاإنسانيّ الذي يعيشه الفلسطينيون، ونعيشه نحن معهم، منذ عقود. ذلك الأفق المقاوم يتجاوز كل اعتبار ذهني مرتبط بمفهوم الربح والخسارة الذي أتخمَتْنا به تربيتنا العميقة، فكَبَّلَتْنا، والذي يغدو، اليوم، في حالة المقاومة بلا معنى.الصلة بين المقاومة والوجود، صلة شديدة الخصوصية، تنبع من ارتباط المقاومة أخلاقياً بالحرية والصدق والشجاعة. ومن ابتعادها عن المهاترات والإيحاءات الفارغة، والألاعيب المبتذلة. فالمقاومة التي نراها بشكل عارٍ ومكشوف أمامنا، لا ما نتخيّله في أذهاننا، هي فعل حيّ عنيف متحرك وذو هدف جوهري واضح: الحرية، من دون أن تكون بحاجة إلى أي مبرر آخر. إنها وسيلة، وليست غاية في حد ذاتها. وسيلة تحرر من استعباد الآخرين، ومن تسلّطهم، داخلياً كان، أم خارجياً. ذلك ما يمنحها بُعْدها التاريخي الآسر.
المقاوِم لا يجهل الحقيقة. لا حقيقة الوضع التاريخي الذي يحيا فيه. ولا حقيقة تاريخه الشخصيّ. ولا حقيقة المكان الذي ينوي الدفاع عنه بكل طاقته. إنه يعرف بدقّة كل هذه المعطيات. ويعرف كثيراً غيرها. لذلك هو يقاوم. هو ليس مقاوِماً جَهولاً. لا! إنه يدرك خصائص الوضع الذي يدافع عنه، تماماً. ويدرك الضرورة الإنسانية التي تدفعه ليصير مقاوماً، كذلك. الكائن لا يولَد مقاوِماً، وإنما يصيره. في هذا المشهد الوجوديّ الصارم يبدأ المقاوِم خطْوته النضالية الأولى. وخطوته، هذه، هي كل حياته. فحياته، منذ تلك اللحظة، صارت معجونة بالتراب الذي يمشي عليه.المقاوم لا يخاف، أو هو لم يعد خائفاً. لأن الخوف جهل. وهو يعرف ما يريد أن يفعله. ويدرك لماذا يفعله. ويؤمن بما يفعله. يعرف أن العدو أقوى منه، وعنده الكثير من وسائل التدمير، وقواته مدعومة من دول الاستعمار القديم المنحازة إليه بشكل أعمى. لكنه يقاوم.. يقاوم رغم الفوارق الهائلة بينه وبين عدوه المستعمِر الطاغية. نحن لا نقاوم مَنْ هم مثلنا، أو منْ هم أضعف منا، أو… نحن نقاوم الأقوى، والأعنف، والأكثر بطشاً. نحن نقاوم المتجبّرين الذين يستعمروننا، ويريدون إبادتنا، حتى ولو كنا مسالمين. المقاومة لا تعتمد على التماثل في القوى، وإنما على التحدي. وإذن، ليس على «الضعيف» الذي لم يتحوّل، بعد، إلى مقاوِم، أن يخشى من المقاومة، بل من الخضوع، لأن المقاومة قد تنقذه، ذات يوم، أما الخضوع فمآله الكَسْر، فالموت، فالاضمحلال.

ضمير المقاوم الحر هو السلاح الأكثر فعالية في الوجود. وهو الشيء الأكثر أهمية في سياق المواجهة مع الاستعمار. عالم بلا ضمير لا يُرهِبه إلاّ ضمير فرد حرّ قرّر، بشكل واعٍ، أن يواجه مصيره بلا خوف. وغياب الخوف، هذا، هو الأمر الحاسم في هذا الصراع الوجودي. وهو الذي سيدفع المقاومة، ربما، إلى نقطة الانتصار. وسيجعل المستعمر الصهيوني الغاشم الذي يدمّر وجود الآخرين يدرك، ذات يوم، أنه لم يكن يملك السلاح الفعّال الذي يملكه المقاوم الحر: إرادة المقاومة من أجل الوجود.

كاتب سوري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية