1
يقول شيخنا الأكبر محيي الدين بن عربي «ما لا يؤنث لا يعول عليه». ولديّ اعتقاد في هذا الباب، أظنه وجيها، هو أن الشعر، في جوهره، كينونةٌ أنطولوجية مؤنثة، في ميلادها، أي أنه محضُ استعارة فطرية مؤنثة بصيغة المذكر. إلا أن تحريفا ما وقع في الرواية، بحيث تم تزوير شهادة ميلاد هذا الكائن، وغابَ عنا بعد ذلك، أنه أنثويُّ الأصل. أيُّ فحولة هذه، تلك التي حكمت على الشعر بوصفه استعارةً وجوديةً، بأن يسير في اتجاه واحد، اتجاهٍ ينظر إلى الشعر في وجهه الذكوري فقط، وباعتباره، عطفا على ذلك، الصميمَ والأصلَ. أليست الفحولةُ، بوصفها حالةً مرضية سيكوباثية، هي العلةَ في فداحة هذا العالم؟
الحق إن هذه النظرة الشوفينية تجاه الشعر، لا يمكنها إلا أن تُفضيَ، بهذه الاستعارة الوجودية، إلى العقمِ غيرِ الخصيبِ. فيما الخصبُ لا ينبعث إلا من الحدس الفطري للذات المؤنثة.
في المغرب، بُعيد الاستقلال بقليل، لم تكن المرأة/الشاعرة لتظل مسمّرةً في خطِّ تماس الحياد السلبي، بل كان لزاما عليها، أن تقول هويتَها المتماهيةَ مع الشعر، به وله، لكن من منهن قادرة على خوض مجرى النهر عكسيا وسط مجتمع ذكوري حتى أخمص القدمين؟ حسب علمي المتواضع، وحدها الشاعرةُ المراكشيةُ مليكة العاصمي، من تجرأت على خوض هذه المغامرة المحفوفة بالمخاطر. وأغلب الظن، أن مسار شاعرة كهذه، بالنظر إلى ظروف ميلادها، سيكون حافلا ومختلفا تماما عما درجت عليه عادة الشعر الفحولي. لهذا وذاك فالاعتراف بعطر مسيرٍ لا يخبُو أريجُه، مسيرٍ ديدنه الامتداد والعبور، مسيرٍ مشاءٍ لشاعرة مشاءةٍ واجبٌ مؤكد.
2
ليست مسألة سالكة، أو يسيرة الشأن أن تكون شاعرا في وقت تتصاعدُ فيه جلبة المتشاعرين، وتتكاثر إلى الحد الذي تفتقر فيه إلى المكابدة والصبر في الكتابة.
ليست مسألة سالكة، أو يسيرة الشأن أن تكون شاعرا لا بوجودك الخاص، أو بصوتك المتمايز، ولكن بوجودك لموضع قدم على أرض الشعر.
قليلة هي الأسماء التي اتخذت من الكتابة الشعرية متكأ ومشروعا في الوجود، به وله، بغض النظر عن الإقصاء أو التهميش والتجاهل الذي يطالها. ومن بين هؤلاء نُلفي اسم الشاعرة المراكشية مليكة العاصمي، هي التي وعت مسارها جيدا ومبكرا، وصممت على اجتراح أفقها الشعري، كمخاطرة نيتشوية، بأناة وصبر نادرين. لقبها الناقد المصري صبري حافظ بـ«الشاعرة المغربية الموهوبة» إذ قال في حق تجربتها الشعرية، هي «تجربة تنطوي على مجموعة من الثوابت، ومن التحولات التي تنتاب البنية والرؤية معا». وبصدد هذه الثوابت، يتحدث حافظ عن «المراوحة المستمرة بين الصوت الذاتي الحميم النابض بالصدق، والرغبة في الانعتاق من أسر القيود، والصوت الجمعي المهموم بالواقع العربي وبقضايا العدل الاجتماعي والحرية». إنها شاعرة رؤياوية بكل المقاييس، فنيا ووجوديا.
أما عن مسارها الشعري فقد قال صبري حافظ دائما، «انتابت البنية الشعرية وبدلت من صيغة القصيدة نفسها، فابتعدت بها بالتدريج عن الغنائية، واقتربت من الدرامية والتراكب، واستخدام الإحالات التناصية والأسطورية، في توسيع أفقها وإثرائها بمستويات متعددة من المعاني والتأويلات، ابتعدت بها عن التناول المباشر للموضوع، إلى التعامل الاستعاري والرمزي معه، لتتحول التجربة إلى تذكارات تضيف فيها الشاعرة بعد الزمن إلى بعد الواقع المتعين، فيتحول الوجود الشعري عندها إلى وجود في الزمن لا خارجه». هي إذن شاعرة مشاءة، لا بالمعنى الفلسفي، وإنما بالمعنى الزمني. بدأ وعيها بالكتابة الشعرية ينضج منذ أواسط ستينيات القرن الفائت، إلا أن الوعي النقدي الفحولي غيبها ضمن تصنيفاته التجييلية – الذكورية المحضة، الذي هو بدوره في حاجة إلى مراجعة. تقول الشاعرة بخصوص هذا الموضوع «بدأت مبكّراً في الكتابة وفي النشر منذ أواسط الستينيات، واشتهرت منذئذ مع رواد القصيدة المغربية، وانخرطت معهم في اهتماماتهم ونضالاتهم، بل بنيت تحت أعينهم مشروعاً نقديًّا لمتابعة ديوان الشعر المغربي منذ أول إطلالاته».
لغتها الشعرية لاهبة ولافحة، وصوتها غاضب وهدّار، منذ ديوانيها «كتابات خارج أسوار العالم» 1987، و»أصوات حنجرة ميتة» 1988. إن مليكة العاصمي تذهب إلى لغتها عُنوةً وقصدا، ولا تترك اللغة تأتي إليها. تذهب إليها من أجل تَنْخيلها من مُلاءات وإملاءات الواقع واليومي، وتجعلها قادرة على قوله، بصيغ أخرى؛ ديدنها في ذلك، الخلق والتفجير، بما هما تغيير لمجرى النهر الهيراقليطي. تخلّق يجعل الواقع ينقال عند الشاعرة كما جاء في البدايات والأصل، لا كما يبدو لنا أو كما نتصوره على الأقل. إن اللغة عندها عارية إلا من عريها تماما كلغة الأطفال. تأسرك وهي «تنطق السين شينا»، كما قال القاص أحمد بوزفور. وحين يُعوزها التعبير، تُخرج لسانها بسخرية سوداء كطفلة مشاكسة. إنها بعبارة الجرجاني، «تجمع بين أعناق المتنافرات والمتباينات في رَبْقًةٍ.. وتعقِدُ بين الأجنبيات معاقدَ نسبٍ وشبْكةٍ».
توظيفها التراث الشعري العربي وغير العربي، بطرائق تنم عن إدراك عميق، بخطورة ما هي مقبلة عليه. هي تدرك أن التكرار الفج للماضي، تشويه وتبخيس له وللحاضر، في آن، وأن الحذر في مساءلة الماضي اشتراط حداثي، ومطلب ملح، الآن وهنا.
في ديوانها «شيء.. له أسماء» لاحقا 1997، ستجترح الشاعرة أفقا شعريا جديدا، لتُصغيَ جيدا باللغة لنداء الوجود. فما لم يقله الفلاسفة واللاهوت يقوله الشعراء ويؤسسونه، على حد قول هولدرلن. لنتأمل جيدا هذا النداء الذي يستدعي التفكير والوجود باللغة وفيها:
أشعرُ أنك هذا المساء الأخير
ستَمضِين عن ناظري
كسنا البرق
أبحثُ عن اللغة المُشرئِبَّةِ
عنكِ
وعن جسدي المستَعَرِّ بنار الفُتُوّةِ.. (أشياء تراودها)
تقول أيضا:
تساقطتِ الأحرف ناريّةً
نارية
في جمجمة الحجّامِ
تساقطتِ الأحرفُ في دمهِ:
ذالٌ.. باءٌ.. حاءٌ.. حاءٌ.. جيمٌ…
ألفٌ.. ميمٌ.. صادٌ.. واوٌ.. ميمٌ.. عينٌ.. تاءٌ
ذًبَحَ.. الحجّامُ.. الصومعةً
ذَبَحَ.. الصومعةٌ.. الحجامَ
ذبحَ.. الحجّامُ.. الصومعةُ
قائمةٌ.. ذبْحٌ.. سقطتْ.. قائمةٌ
سقطتْ.. حجّامٌ
عَيْطٌوشُ
ولَيْطوشُ
ولَطُّوشُ
وشَمهاروشُ
بهذه العظمة اللغوية، تقول الشاعرة مليكة العاصمي كينونتها، بهذه الدهشة والفوضى (بالمعنى النبيل ـ الخلاق) تعيد ترتيب اللغةِ/الأشياءِ، أو بالأحرى تعود بها إلى بداياتها الأولى. وهذه سمة من سمات الشعراء العظماء، لا نعثر عليها إلا في زمن الشعر الذي لا يعيشه إلا من جُبِل بالفطرة على تأنيثه. فالعظيم هو من يستطيع بكلمة واحدة، وإن كانت غيرَ مرتبةٍ، وعاريةً، أن يثير أو يخلُقَ الدهشةَ. ليستمر هذا الإصغاء، باطراد وتنام، عبر أعمالها، «دماء الشمس» و»بورتريهات لأسماء مؤجلة» (2001)، و»كتاب العصف» (2008)، و»أشياء تراودها» (2015) بما يحفل به، هذا الأخير، من تسريد حكائي يبعثر الشكل والكينونة.
3
السرد في عملها الشعري «أشياء تراودها» هو:
سياحة في الملكوت بالتخييل.
هو توعُّرٌ واستبطانٌ للوجود به وفيه.
هو شرود وعزلة نكاية بالغنائي.
الحكي في هذا الديوان احتراق أنطولوجي بلسان اليأس والمواجع.
وهو استيلادُ المخبوء من المعطى الناجز.
وإذا كان السرد في تجربتها هذه قد ولج في الشعر مثلما يلج الليل في النهار، وأصبح من ثم التذويت المتشظي سمة مهيمنة دفعت الخيال إلى ارتكاب آثامه (الآثام باعتبارها فضيلة)، فإن تطور مفهوم الشعر لديها، في هذا الأفق الشعري الذي اجترحته بوعي في كتاباتها الأخيرة، قد بلغ مضايقه بتعبير أبي نواس، وأصبح :
– هو الكيف والتكيف. هو التحجُّب والانكشاف devoilement . هو انصهار المعاصرة في التراث والتراث في المعاصرة. هو السياحة في مقامات الوطن، فرحا وألما، وهو رفض مطلق للعنف، بالحال والعلم معا حدّ الخدر..
4
على أن الاختيارات الجمالية للشاعرة في هذا الديوان (أشياء تراودها)، أيضا وعطفا على ما سبق، تنزع بالشعر، هذا الفعل المارد، نحو تخومه، وتطوّحُ باليد الكاتبة.. في تخوم إيقاعاتها، مثلما تطوح بالنص في مواجهة دواله؛ مؤسسة، بذلك، ما يمكن تسميته بـ»النص البلوري». هو نص متعدد الأضلاع. نص له خبرة بما هو مقبل عليه، من برنامج نصي، يختلف تماما، عما درجت عليه العادة الشعرية النسائية والذكورية، على حد سواء، بعيدا عن أي تهافت، من جهة، وبما ينطوي عليه من وجود من جهة أخرى. الخبرة هنا، بما هي خبرة جمالية مرتبطة بالنص، وخبرة أولية – أنطولوجية، بتعبير هايدغر، لها علاقة بالوجود، لا في ماهيته، وإنما في انكشافه وتجليه. والانكشاف في قاموس شاعرتنا، هو التعري بقسوة، حتى لو ترك ذلك ندوبا وألما. لنتأمل هذا المقطع المعتبر:
إني أموت عليكِ
أشقُّ قميصي
لكي تنظُري كيف تضطرِمُ النارُ
في كبدِ اللظى
أقطِّعُ قيثارتي من نِياطِ الدِّماغ (أشياء تراودها)
والحاصل إن منجز الشاعرة مليكة العاصمي برمته، ينماز بخصال/ميزات ثلاث:
– توظيفها التراث الشعري العربي وغير العربي، بطرائق تنم عن إدراك عميق، بخطورة ما هي مقبلة عليه. هي تدرك أن التكرار الفج للماضي، تشويه وتبخيس له وللحاضر، في آن، وأن الحذر في مساءلة الماضي اشتراط حداثي، ومطلب ملح، الآن وهنا.
ـ إن غنائية قصائدِ هذه الشاعرة، ناجمةٌ بالأساس عن الحضور الديالوغي القوي في هذه القصائد، وذلك بتعدده البوليفوني.
ـ إن التزامها، إيقاعيا، بعمود الشعر المعاصر، في عمومه، هو التزام بإيقاع الحياة المعاصرة، وكذا إنصاتها العميق لنداء الوجود بتعبير هايدغر، لا باللغة هذه المرة وإنما بالموسيقى. إن الإيقاع في تجربة، هذه الشاعرة، هو ماءُ الشعر عندها، بلغة القدماء. ماءٌ يجري بالتوازي أو بالمزاوجة (نقلا عن صلاح بوسريف) مع الصورة الشعرية المدهشة. حدث هذا بالتجريب في كل انحرافات نهر الشعر (إيقاعيا) لديها وفي تشققات ضفافه.
* شاعر مغربي
تحية خاصة للأستاذ الشاعر محمد الديهاجي
سعيدة ان نلتقي على هذه الصفحة الثقافية
مقال جيد، وشاعرة معاصرة استطاعت أن تثبت وجودها في المشهد الشعري المغربي الحديث والمعاصر
تقديري لهذا الناقد الكبير
الأستاذ محمد الديهاجي
لي الشرف بهذا اللقاء المبدع