من بعد جيل الخيبة في السبعينيات بدأ استشراء الفساد. رجال الجيل الأوّل، الآباء، لم ينجزوا شيئا، لكنهم كانوا مخلصين لما آمنوا به، عقائدهم وكتبهم على وجه الخصوص. الفارق بين إسماعيل وأبيه هو أن الأول (زمنيا) ضحّى بثروته الكاملة لكي يتفرّغ لنضاله، أما الابن فانشغل بمحاولات استعادة تلك الثورة عن طريق التسلّق والمداهنة. ما زالت هناك، في الرواية، بقايا من ذلك الجيل الأول المناضل -الخائب. منه شخصيّتا الفقي والفرجاني، الجالستان على الدوام في المقهى، مع كتبهما وحِكَمهما السياسية. حولهما روّاد كثيرون، بعضهم يأتي وبعضهم يذهب، وهؤلاء مختلفون إذ بينهم المحبط (وهو جمال بطل الرواية، لكن العاشق أيضا) وبينهم الحالم، ومن يلعن الزمن الواقف صلبا مثل جدار، كما بينهم محمد الميّت، وهذا اسمه أو لقبه، الذي يبيع إحدى كليتيه، وبينهم المتسلّق أيضا، مثل إسماعيل المذكور عنه أعلاه، وأخو جمال راوي الحكايات وبطلها. لكن كل ما يجري في ذاك المقهى، كل ما يمكن أن يوصف به، هو أنه يعيش مع رواده خيبة باتت مديدة، لكون شيئا لم يحدث شيء مما ينتظره، وربما لن يحدث أبدا.
هي رواية ملحمة حسب تقسيم نقدي كلاسيكي، أي إنها تطمح إلى تغطية مرحلة، لكن دون أن تذهب إلى أبعد مما يعرفه قرّاؤها المفترضون، ودون كشف جديد، أو كشوف جديدة. في الخط العريض لمجرى الأحداث، وفي الكلام الذي قيل تعليقا عليه، وفي أنواع الشخصيات التي انبثقت من تحوّلاته، كان القارئ عارفا مسبقا بما يقرأ.
الراوية، جمال، وهو الشخصية الأساسية في الرواية، فاشل ويخشى الوقوع في مزيد من الفشل. موظّف متخوّف من أي تغيير قد يحدث في مكان عمله يكون هو أوّل ضحاياه، ذلك لأنه لا واسطة له ولا سند، كما يقول. أما الآخرون، المتسلّقون، فتحالفهم الحظوظ. على مدار صفحات الرواية الكثيرة لا يتوقّف الراوية عن التشكي من الزمن، الذي يرفع مَن هم أكثر ذكاءً وأحطّ قدْراً. هو يستعير حِكمة الجيل الذي سبق وطهرانيته، ليهجو بها مجايليه الفاسدين. ولهؤلاء، بدا الوصول السريع متاحا وهيّنا. محمود الوكيل الذي كان يعمل في المهن الأدنى اعتبارا، صار مالكا للعديد من الشركات الضخمة ومتهيّئا لاحتلال مواقع مهمة في البلد. ومثله، وإن بدرجات نجاح أدنى، سعى كثيرون آخرون كانوا من أصدقاء جمال أو من معارفه. أما هو فخائف على الدوام من فقدان عمله، إضافة إلى خيبته من ذهاب الزمن إلى الأسوأ، لائذ بعشق امرأة هي زوجة لواحد من صغار الفاسدين. لكن الخيبة المستحكمة تزعزعت بظهور الجيل الثالث وتحدّيه الخوف الذي له «في هذا البلد، جسد محسوس يتحرّك ككتلة ضخمة». بدأ الجيل الجديد الثورة المنتظرة التي، من لحظة اندلاعها، بدأت تُجري تغييرا في أخلاقيات الجميع وتهدّد مواقعهم. روّاد المقهى تحولواّ في أغلبهم إلى متفرّجين مؤيدين، ومسلّمين خياراتهم، على نحو تام هذه المرة، للجيل الجديد. باتوا مصفّقين لكل ما يصلهم من أخبار عن نجاح الثوّار، وراثين لمن يسقط صريعا من هؤلاء «الذين لم يقدموا على ما فعلوا إلا ليعيشوا».
يتعقّب يحيى مصطفى كامل وقائع الثورة وما تلا من نتائجها، على نحو ما نقل وقائع العهود السياسية التي سبقتها. وهو رافق، على الدوام، العهود المتتالية منذ الناصرية وعلى جانبيها اليسار والأخوان المسلمون، ثم عهد الانفتاح، ثم عهد مبارك، ثم سقوطه، وما تخلّل ذلك وأعقبه من معركة الجمل وأحداث رابعة، إلخ. كانت شخصياته، من رواد المقهى ومن هم حولهم، متفرجين ورواة لما يحدث، صدى مُرجعا ما يجري، أو مسجّلا له. وبدوا أيضا كأنهم نماذج تمثيلية لأنواع الرجال الذين لعبت بهم السياسات في تلك المراحل، صعودا وهبوطا. أعيّن الرجال هنا لأن النساء تُركن خارج التاريخ الذي نقلته الرواية، فقد استُبعدن، أو استُبعد حضورهن حتى عما جرى في ميدان التحرير. بين ذلك العدد العديد من الرجال، حضرت امرأة واحدة في الرواية: عشيقة جمال التي لولا وجودها لاقتصرت الرواية على أن تكون تمثيلية كرونولوجية لما جرى من تغيرات في تلك السنوات وللتعليق عليه.
كنت، في ما أقرأ، أنتظر أن تلوح من جديد فصول على ما يجري بين جمال ومعشوقته. كأنني، كقارئ، لم أكن أقل تشوّقا من جمال نفسه لظهورها أمام باب شقّته مستعجلة الوقوع بين أحضانه. لا تقديم ولا تأخير في الرواية، لا تقديم في الزمن ولا استرجاع. هو خطّ، سردي ووصفي واحد متصّل في تعاقبه لواقع أخذت الرواية منه بنيتها ومسارها. كأنها واحدة من روايات الستينيات، بنيةً ولغةً وتطلعا دراميا، وإن قصدت أن تكون ملحمة لما جرى في زمن لحق.
هي رواية ملحمة حسب تقسيم نقدي كلاسيكي، أي إنها تطمح إلى تغطية مرحلة، لكن دون أن تذهب إلى أبعد مما يعرفه قرّاؤها المفترضون، ودون كشف جديد، أو كشوف جديدة. في الخط العريض لمجرى الأحداث، وفي الكلام الذي قيل تعليقا عليه، وفي أنواع الشخصيات التي انبثقت من تحوّلاته، كان القارئ عارفا مسبقا بما يقرأ.
ذلك التاريخ، العريض والكامل، غلبته في الرواية حكاية العشق الواحدة، تلك التي انتهت بجريمة لم تكتمل. أقصد أن حكاية الغرام هذه استحوذت على خاتمة الرواية، وأضفت نهاية معقولة دراماتيا على صفحاتها التي نافت على الأربعمئة.
«حكايات الرغبة والغضب» رواية يحيى مصطفى كامل صدرت عن «دار الربى للنشر» القاهرية في 418 صفحة – سنة 2021.
كاتب لبناني