مملكة الموضة.. زوال متجدد

هذا كتاب للفيلسوف الفرنسي جيل ليبوفتسكي قامت بترجمته المترجمة والكاتبة دينا مندور في مصر. العنون الأصلي للكتاب هو
L’Empire de l’éphémère: La mode et son destin dans les sociétés modernes.
أي «مملكة الزائل.. الموضة ومصيرها في المجتمعات الحديثة»، لكن المترجمة فضلت أن تضع لفظ الموضة في العنوان الرئيسي لكونها الموضوع الأساسي مع الاحتفاظ بصفة الزوال الذي يقصد به ليبوفتسكي خسوف الموضة من أجل شروق موضة أخرى. الكتاب صادر منذ ثلاثة أشهر عن المركز القومي للترجمة في مصر. لا بأس في هذا العنوان باللغة العربية الذي يجذب القارئ العربي العادي أكثر من العنوان الفلسفي، وإن كان القارئ العادي سيجد صعوبة على الأقل في النصف الأول من الكتاب. وموضوع الموضة والأزياء على ما يبدو من «تفاهته» موضوع كاشف للتاريخ والحياة مثل، أي ظاهرة كبرى. دينا مندور المترجمة جادة في مجالها سبق أن ترجمت أكثر من كتاب ورواية ومنها كتاب لليبوفتسكي نفسه هو «المرأة الثالثة».
الكتاب مكون من جزئين الأول بعنوان «هوس المظهر» والثاني بعنوان «الموضة المكتملة» وطبعا لايمكن الإحاطة بكل ماجاء في الكتاب. لكن هناك علامات بارزة وأسئلة مهمة يجيب عنها أو يوضحها. هو يربط الموضة وتطورها بتطور التاريخ والنزوع نحو الفردانية في المظهر والسلوك. وليبوفتسكي واحد من كبار الفلاسفة والمفكرين الذين كتبوا في الموضوع ليس أولهم مونتان ولا آخرهم رولان بارت. السؤال الأول الذي يشغل الكتاب، هل هذه الظاهرة الإنسانية ـ الموضة ـ بغرابتها وغموضها، قادرة على احتلال مكان في تاريخ البشرية؟ ولماذا يحدث ذلك في الغرب فقط؟ وغير ذلك من الأسئلة التي استدعت قراءة التاريخ. لقد تأخر ظهور الموضة قديما لأن المجتمع البدائي لم يكن يسمح بتقديس الابتكارات، ولا الولع بالتفردات ولا الاستقلالية الجمالية للموضة، فهو مجتمع ناكر لديناميكية التغيير والاختيار الوحيد للناس هو التواكب بصرامة مع ما كان سائدا في العصور الأولى، واستمر هذا الفهم طويلا.
تجلت الموضة بمعناها الحرفي في القرن الرابع عشر مع ظهور نمط من الزي الجديد الراديكالي، يمايز بوضوح بين الجنسين. قصير ومعتدل للرجال وطويل وضيق للنساء، بدلا عن الرداء الطويل الواسع الذي ارتداه الجنسان لقرون عديدة. وهذا التمايز بين الجنسين في الزي هو ما استمر حتى القرن العشرين وبدأت أزياء الأنثى تكشف عن مفاتنها وتوسعت التنويعات حتى صارت أكثر اعتباطا وشططا ولم يعد التغير ظاهرة غريبة ولا طارئة، بل أصبح قاعدة دائمة للمُتع في الطبقات الراقية، وأصبح أحد مكونات الحياة المدنية.
يعدد الكتاب خلال ذلك أشكال التغير في الموضة في دول أوروبا مثل إسبانيا وإيطاليا وإنكلترا وفرنسا وغيرها. لم يكن ممكنا أن يمر ذلك بدون انتقادات من الكنيسة والفكر القديم المقدس لتشريعات الأسلاف، لكن الموضة أخذت طريقها علامة على قدرة البشر على تغيير وابتكار الطريقة التي يرتدون بها ملابسهم، وأن يكون الإنسان سيدا لظرفه الوجودي، لا ما يفرضه الأسلاف وفكرهم.
قديما كان أقصى عمل الإنسان التزويق والآن صار مولعا بالاختراع للمظهر كاملا، ملابس ومجوهرات وعطورا. قطعت الموضة كل صلاتها مع الماضي وصار لها نفوذ روحي ومادي من عصرها الزائل الذي تتجدد مع زواله، فهي في صيرورة دائمة. لقد واجهت الموضة كما قلت نقدا وهجوما من المعايير الأخلاقية والدينية السائدة، انتقادا للزي نفسه الذي اتهم بالفضائحية، سواء للرجل أو المرأة، لكن الموضة انتصرت واستمرت في تغيرها. هل يذكركم هذا بشيء في معارك زماننا ـ نحن المسلمين ـ بين الزي التقليدي للصحراء وزي العالم حولنا، الذي تطور من قرية صغيرة في العصر الحديث إلى هاتف نقّال في عصرنا؟ لقد فرضت الموضة نفسها باستبداد هي الأخرى، لكنه استبداد التغير الذي هو بلا عواقب وخيمة، اللهم إلا الضحك والسخرية. طبعا الحديث عن أوروبا وليس عنا الآن كما قلت، لكن وصول الموضة إلى الطبقات الدنيا استغرق وقتا طويلا، وحين وصلت كانت أحد مظاهر المساواة وزعزعة النظام المستقر للمظهر التقليدي والتمايز بين الطبقات، فانتقلت الجرأة من طبقة النبلاء إلى البورجوازية الناهضة إلى العامة، في ما بعد، كما ارتبطت الموضة بالنزعة القومية التي ميزت بين الأمم من جانب آخر، وإن ظلت النزعة الفردانية في كل منها هي جوهرها.
لدخول الطبقات الفقيرة في تقليد الطبقات الأرقى كان على الطبقات الأرقى أن تغير من الموضة أيضا، كلما اقترب منهم الأقل اجتماعيا. هكذا تسارعت الموضة معبرة عن تسارع التغير في الحياة أو ممهدة له. صارت الموضة ظاهرة على التنافس الاجتماعي، حتى لو كان الأصل فيها عند الطبقات الأعلى هو البذخ والتباهي، ودخل فيها بقوة عنصر الغواية وألعابها في مظاهر إنسانية مثل، الحب الذي ساهم في زيادة شرعنة الذوق الأنثوي في التجميل للطرفين. ظهرت الموضة بالمعنى الحديث للكلمة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بمعنى ظهور نظام من الإنتاج والانتشار لم يكن معروفا من قبل. وشهدت تغيرات كبيرة من وجود خياطي الطبقة الوسطى والبسيطة إلى صناعة الملابس الراقية، وبدأت تتأسس دور الأزياء وصناعتها منذ منتصف القرن التاسع عشر وظهرت عروض وديفيليهات الموضة منذ بداية القرن العشرين. طبعا الكتاب يذكر أسماء كثيرة لبيوت الأزياء وعروضها، ويفعل ذلك في كل ظاهرة يتحدث عنها، بل وكثيرا ما يذكر آراء الفلاسفة والمفكرين، حتى صارت باريس هي التي تُملي الموضة على العالم.
التحقت الموضة بالفنون الجميلة فأصبح مصمم الموضة مبدعا حرًا يعمل بلا قيود، وإن كان كثير من كبار المصممين يرون أن استقلاليتهم الإبداعية محدودة بروح العصر والإسلوب الرائج، وطبيعة المادة المُنتجة. ويظل الرسامون والموسيقيون والكتاب لهم حرية التجريب أكثر. يواكِب الكتاب ظهور أزياء الشاطئ والحياة العادية. «الجوب» و»الميني جوب» والمايوه والبيكيني وغيرها من الملابس الرياضية أيضا، وحتى بعد أن تشابهت أزياء الرجال والنساء في عصر السرعة والكم هذا، فأنت ترى، في الوقت الذي ترتدي فيه الأنثى والرجل البنطلون كيف تميز بين بنطلون كل منهما وقميص كل منهما، فضلا عن ظواهر الأنوثة الأخرى في الحلي، بل وقصات الشعر وغيرها من المظاهر. الموضة لا تنفي عنصرها بل يظل التمايز بهذه الأشياء الصغيرة أو»اللاشيء»، المهم المحصلة وهي ازدياد الفردانية في الأزياء، فنحن نرتدي لصالح ذواتنا ولصالح أذواقنا الخاصة، وليس من أجل معايير لزومية فتنوعت الموديلات. الفردانية رغم أنها أقل مجدا أكثر حرية، ويتابع الكتاب كل مظاهر الموضة من سحر التصميم وسحر المظهر فالقبح لا يبيع جيدا، أي ظهور الطابع الاستهلاكي انحيازا إلى الغواية والجمال الإنسانيين بالأساس. وخلال ذلك يتحدث عن أهمية الشعارات للمحلات في الأزياء والعطور وغيرها وحمى الاستهلاك من إعلانات ودعاية وإعلام والملصقات التي صارت صناعة كاملة، ليؤكد أن الثبات أصبح لعبة قديمة ويبحث الإنسان المعاصر الآن عن نماذجه في نجوم الفن والموسيقى والإعلام والغناء، وليس أسلافه، فالمجال حر وغير معطل للمحاكاة السريعة، حتى صارت الموضة مثل الكتاب والأفلام لا يقبلها عارضوها بمجرد مضي عدة شهور على صدورها. وهكذا صارت نهاية التقاليد وعدم ثبات معايير الشراكة وفرط الفردانية هي الموضة المكتملة بصفتها مرحلة أخيرة للحالة الاجتماعية والديمقراطية.

٭ روائي من مصر

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول علي:

    أظن- والله أعلم- أن الموضة ظاهرة تلمودية أو بروتوكولية من حكماء صهيون، ولكن الأعجب منها والأخطر ظاهرة مملكة العسكر في بلاد الأشاوس والنشامي بتجلياتها الدامية، وفشلها المتكرر في إدارة أحوال الناس، وإخراجهم من وهدة التخلف والضياع والهزائم!

  2. يقول الشربيني المهندس / مصر:

    هناك ارتباط وثيق بين الموضة والفن والصناعة ، ففي اللوحات الفنية يظهر مع الوان الملابس مثلا مدي تقدم مهنة الصباغة وكذلك التفصيل والتطريز وظهور الأحذية مؤشر كذلك واذا اردت رصد حضارة ما فارجع الي اللوحات الفنية .. الزجاج الملون والمزركش أيضا علامة بل ان احتلال بلدان افريقية كان عن طريق الاغراء بذلك .. المقال الثقافي بالقدس عن الاحتفال بذكري الطربوش الدمشقي يوضح ذلك وشكر لجهد القدس الثقافي

  3. يقول أحمد عمر:

    أستاذ ابراهيم عبد المجيد اختار لنا اليوم موضوع شيّق غير تقليدي.
    نعزو ذلك التنوع له وللقدس العربى
    الكبير.
    موضوع أحداثه تأخذنى أنا شخصيا للتجول
    فى زمن ماضٍ سعيد صنعنا أحداثه بجهود فردية لكى نعيش فيه باحترام.
    فمرة نختار أزياؤنا بحرص وروية، وعطورنا،
    وكتبنا، وبرامج الإذاعات العربية وقتها
    كانت تجمعنا حول الراديو بمصداقية
    إعلاميين عرب علمونا وقتها كيف نحب
    الأوطان والحياة.
    كان ذلك مع نهاية حقبة الستينيان من
    القرن الماضى.
    فهذه مقهى (ريش)، وتلك مقهى (أسترا)
    وكان المثقفون والأدباء الأحباء يرتادونها،
    وذلك (اكسليسيور) بشارع سليمان
    وكلما مررت عليه اليوم حزنت لحاله
    وقد كان فى الماضى وجهة لبعض
    المثقفين والأدباء والصحفيين…
    فضلا متابعة…

  4. يقول أحمد عمر:

    استكمالا للتعليق فضلا…
    وتلك كافيتيريا (إزافيتش) بميدان التحرير
    بداية عصر السبعينيان وقد أزيلت كذلك،
    وكان أسفلها مطعما للفول والطعمية،
    يقدم لنا مع الوجبة الشوكة والسكين
    والملعقة( مع الفول والطعمية!!)
    فكم كان الاحترام سائدا بين الناس فى
    ذلك العصر الجميل.
    أما الأزياء والعطور فكانت وقتها وجهتنا
    الشواربى (الذى كان!!).
    فأذكر أن صديقى دخل (جمعية)
    مع عشرة أفراد، بمبلغ شهرى يدفعه كل
    منهم آخر كل شهر، ومَن عليه الدور
    فى استحقاق المبلغ المجمع من العشرة
    أفراد يأخذه.
    وكان صديقى الشاب يتوق لشراء (بليزر)
    جاكت بدلة لونه كحلى بأزرار فضية، وجاء
    عليه الدور لقبض الجمعية المجمعة،
    ولا يدفع نصيبه لأنه هو الذى عليه الدور
    فيأخذ مبلغ تسعة أفراد فقط. وفَرِح
    فضلا متابعة…

  5. يقول أحمد عمر:

    استكمالا للتعليق فضلا…
    فرحاً شديدا، وتقابلنا وفَرَكَ كفيهِ فرِحا
    وقال: الحمد لله، أخيرا سأشترى البليزر
    المصنوع فى (انجلترا) والذى سأقابل به
    من سأتزوجها، وتزوجها فعلا وأنجب منها طفلا جميلا أسماه (إسلام).
    كان يكفينا 50 جنيها لشراء قميص
    وبنطلون وحذاء جلد طبيعى من وسط
    القاهرة، وما يفيض نشترى منه الصحف
    العربية من مكتبة الحاج مدبولى بميدان
    طلعت باشا حرب، ونشرب من الخمسين
    جنيها عصير الفراولة أو المانجو.
    كان زمنا محترما، وكانت (البَرِكة)
    موجودة، أما جيل اليوم فقد ضَيَّعَ
    الضياع حتى إلا المحترمين وهم قلة.
    شكرا لك وللقدس العربى الكبير أنكم
    ذَكَّرتمونا بزمن حلو جميل.

إشترك في قائمتنا البريدية