الشمس ترسل أشعتها العموديّة وأنا رأسي غادره أكثر من ثلثي شعره من سنوات بعيدة. بات قاحلا نصحني أهل والرشاقة والجمال بأن أزرع شعرا قلت: وماذا سأجني؟ من يزرعون الشّعر يجنون الجمال، هكذا قالت لي سيّدة رقيقة مهذّبة راق لي كلامها، بيد أنني لم أدوّنه في سجلّ الحكمة.
الشمس ترسل أشعتها وأنا أقف في هذا اليوم القائظ تحت شجرة وألبس مظلتي وأنتظر زوال حرّ لا يزول. أقف في ظلّ شجرة عطشى لم تسقها يدٌ من أشهر، بعد أن حبس الله عنها رذاذا وغيثا.. أنظر إلى أوراقها التي تحافظ على خضرتها، رغم كل شيء فليس لها إزاء هذا القيظ إلاّ أن تحفظ ماءها الجاري في عروقها كما يحتفظ مسافر بقطرات ماء، عساه يجد نبعا قريبا. تعصف ريح سموم فتقلع مظلتي من رأسي وتعبث بها على الرصيف.. تعبر المظلة الطريق بسلام قبل أن تمرّ سيارة مجنونة تأخذ شكلها وتقبرها قبل فوات الأوان.. تعدو مظلتي وتطير كما الأطباق الطائرة، إلى أن تقع بين ساقي بعض المارّة يلتقطها ويعرف بالقوّة أنني صاحبها.. يحملها إليّ فأشكره وألجأ مرة أخرى إلى ظلّ آخر.
المظلة قبّعة تصنع من السّعف أو تصنع من الحلفاء كانت لباس البدو مثلي في الصيف كانوا يلبسونها في مواسم الحصاد وصرنا نلبسها في المواسم نفسها ولا حصاد.. تصنّف المظلة إن شئنا تصنيفها تصنّف في نوع القبّعات، لكنّها ليست في هذا النوع طرازا، لا بين أهل الوبر في الريف، ولا بين أهل الحضر في المدينة. المظلّة في الريف قبّعة الصيف، فهي ضيف على الرأس لا يقيم كثيرا. الرأس كانت تغطيه في بقيّة فصول السنّة قبّعة أخرى حمراء قانية اسمها الشّاشيّة يسمّيها الناس عندنا «كبّوس» تحريفا للكلمة الفرنسيّة Capuche. الشاشيّة هي أيضا تسمية لها تاريخ ذلك أنّ هذه القبعة الحمراء التي تسرّ حين تكون قانية الناظرين، يمكن أن تُغطّى بلحاف أو بعمامة تسمّى الشّاش وتقرب من عمامة الملثّمين. كان همّ الإنسان من القديم أن يغطّي رأسَه؛ أجملُ شيء في الإنسان هو رأسه، لذلك يحميه، إنّه غرفة القيادة ومستودَع الأسرار وهو حافظة الذكريات وهو الثروة الوحيدة للفقراء فإن تعطّل كان التقتير والبؤس الكبير.
كان جدّي يلبس العمامة والشاشية، ويزيد عليها في الصيف المظلّة.. لكنّ حفيده الكبير: المحترم أنا، هو من الأجيال التي اختارت أن تكشف عن رأسها؛ فذات مرّة قرّر الناس أن يلقوا العمائم ويكشفوا الرؤوس، وذات مرّة صار لبس القبعات أمرا اختياريا وجماليّا.. لكنّ ذلك لم يكن دائما الحلّ في تحرير الرأس من عقاله. يمكن أن تلبس قبعات الإفرنج في بلاد العرب أنت حرّ، ولكنّك لست حرّا كثيرا فلربّما حدث لك ما حدث لي حين اعترضني أحدهم ذات شتاء مُمْحل لا مطر فيه، ونظر إليّ شزرا وحين تجاوزني قليلا قال بصوت مسموع: «أيّ رهط هؤلاء!.. الله يعاقبنا بجرمهم .. فيحبس المطر» كان لا يحفظ القرآن وإلاّ لأضاف: (اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السّفهاء منّا).» كان ذلك الموقف الذي جاهر به صاحبه، وكان لا يعرفني، أبلغ المواقف التي جعلتني أنتبه إلى أنّ الرؤوس والشخوص وقيمهم ومعتقداتهم يمكن أن تقيّم انطلاقا من العمامة وما لفّ لفّها.
القوّة الفنّية للاستعارات مبحث لا يراه إلا البلاغيوّن والنقّاد والشعراء وأهل الفنّ، حين يقيّمون استعمال استعارة ما في موضع من القول معين، أو حين يقيمون ابتداع استعارة ما.
قلنا في مقال سابق ونحن نتحدّث عن سيميولوجيا اللباس التي أبدع في أدبيّاتها العلامة الفرنسي رولان بارت، إنّه يتجاوز وظيفته الأصلية وهو الوقاية ليصبح علامة مقروءة ذات دلالة يمكن أن تحيل على رموز. فحين ألبس أنا اليوم شيئا على رأسي لأقيه من الحرّ والقرّ، فإنّ ذلك الشيء سيصبح ذا مدلولات كثيرة. لأفترض أنني ألبس هذه المظلّة وأسير بها في شوارع قريتي فستُقرأ على أنّها لباس على غير الرأس الذي عليه أن يحملها. فالمظلة في قريتنا لباس الفلاّحين في الأصل: يلبسها الفلاح في موسم الحصاد وكذلك كلّ معاونيه، أمّا أن يلبسها موظّف في الأرض مثلي، فهذا يعني جملة من الأشياء تختلف باختلاف موقف المؤوّل من الموظّف. فالمتعاطف معه سيقول وهو يرى المظلة ساء المآل وصار الموظف في أعسر حال؛ وحين يراني من يعتقد أنني قادر على القبعة الفاخرة سيقول هذا تواضع وبحث عن البسيط واختيار لأن يعيش المرء بين أهله البسطاء ببساطتهم؛ وحين أعاد إليّ الرجل مظلتي الهاربة منّي قد يقول في نفسه أقوالا كثيرة لا يعلمها إلاّ الله فهو يمكن أن يقول كأنّه يخاطبني: ركّب لها خيطا يشدّها إلى رقبتك.. فمن يصنَعْ طاحونة يصنعْ لها جَلاجِلَ.. وقد يقول أشياء أخرى لا يعلمها إلاّ الله.. لكن حين أسير في المدينة بهذه المظلّة يمكن أن يتكهّن الناس بأنني من «مناطق الظلّ». فينسبونني إلى موطني باستعمال استعارة استخدمها النظام البائد فباد هو والتسمية لم تبد.. كان يطلق هذه التسمية الاستعارية على المناطق المهمّشة.
حين يستعمل السياسيون الاستعارات يستعملونها لا لقوّتها الفنّية، بل لقوّتها التّنفيذية. القوّة الفنّية للاستعارات مبحث لا يراه إلا البلاغيوّن والنقّاد والشعراء وأهل الفنّ، حين يقيّمون استعمال استعارة ما في موضع من القول معين، أو حين يقيمون ابتداع استعارة ما. السّياسيون الذين يسموّن الأشياء بالاستعارات لا يبحثون عن القوّة الفنّية، هم عمليّون كثيرا لا يعنيهم الفنّ إلاّ من باب المصلحة، لذلك يبحثون من وراء الاستعارة على القوة التنفيذية التي فيها. في تسمية مناطق محرومة من البلاد بمناطق الظلّ أكثر من قوّة تنفيذية أوّلها أنّ الشمس، وهي ههنا رمز التنمية والرفاه، تعمّ جميع الأماكن في الوطن باستثناء رقعة منه لم يغطها نور الشمس. هذا ضحك على الذّقون، لأنّ الشمس لا تعني في شرقنا الأوسط الكبير ما تعنيه «في بلاد تموت من البرد حيتانها» كما يقول الطيب صالح. الشمس في ثقافة الصحراء وشبه الصحراء لا يحلّ إن حلّ إلا بالجفاف والعطش. فمناطق الظلّ استعارة أنبتت عن واقعها الأوروبي وأريد إنباتها في واقع عربي يرفضها كلّ الوطن ظلٌّ باستثناء بقاع قليلة تطلّ عليها الشمس وتزّاور عن غيرها ذات اليمين وذات الشمال. إنّ القوّة التنفيذية في استعارة مناطق الظلّ تكمن في أنّها قسّمت الوطن قسمين: فقسم في مَنْجَاة وقسم في مهلكة، الطريف أنّ من اعتقدوا أنّهم من مناطق الشمس يستخدمون عبارة «مناطق الظلّ» في النعت المذموم، استطاعوا أن يعيدوا بالعبارة صراعا ثقافيّا لم يعد مفيدا هو صراع ثقافة البادية مع ثقافة المدينة. في عصر العولمة الذي صار كل العالم فيه قرية ما تزال هناك جيوب تعتقد أنّ في القرية مناطق ظلّ ومناطق شمس.
أسوّي مظلّتي وألبسها بعناية وأمشي ضدّ رياح السموم بقوّة مضاعفة وأمسح بالمنديل الورقي عرقي.. تعترضني شاحنة كبيرة يتوقف صاحبها يُنزل البلور ويسألني: هلاّ أرشدتني إلى، مكان تجميع القمح.. أرشده فيمضي شاكرا.. وقبل أن يغلق الشباك قال لي: أراك لا تعرق.. قلت نحن ننعم بالظل.. فهمني فمضى ومضيت.
٭ أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية
ملاحظتان نقديتان، إذا كان لا بد من التعليق ولو جاء متأخرا قليلا..
أولا، عندما يقول الكاتب.. /ونظر إليّ شزرا وحين تجاوزني قليلا قال بصوت مسموع: «أيّ رهط هؤلاء!.. الله يعاقبنا بجرمهم .. فيحبس المطر» كان لا يحفظ القرآن وإلاّ لأضاف: (اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السّفهاء منّا).»/.. وهل كان الناظر إليه شزرا سيضيف بالفعل هذه الآية بالذات لو كان يحفظ القرآن فعلا؟؟.. أي منطق «لساني» هذا؟؟..
ثانيا، العبارة التي استخدمها الكاتب «مناطق الظل» هي كناية وليست استعارة في هذا السياق.. لأن الاستعارة تشير إلى ذلك الإجراء النقلي الذي يتم به إحلال جامد، أو حي، محل جامد، أو حي، آخر يقوم على وجود مماثلة ضمنية بينهما /مثلا، «لبنى هي الشمس تأتي»/ إلخ.. وهكذا فإن الاستعارة قابلة للمقايسة بالتشبيه simile لأنه يقتضي وجود المماثلة نفسها عدا أنها تقترن اقترانا صريحا بإحدى أدوات التشبيه المعروفة /مثلا، «لبنى كما الشمس تأتي»/ إلخ.. وهنا أحيل الكاتب إلى مقال أستاذي غياث المرزوق المعمق «الدال» The Signifier باللغتين العربية والإنكليزية!!..