في العالم المتقدم، سواء في الغرب أو في الشرق، يتحدثون بمناسبة نهاية سنة والانتقال إلى سنة جديدة، عن تغيرات هائلة تطرق أبواب مجتمعاتهم، ثم يردفون ذلك بمناقشات حول سبل التعامل مع تلك التغيرات. إنهم يتحدثون عن اختفاء صناعات تقليدية عديدة سيتخطاها الزمن، تماما كما حدث مثلا لشركة كوداك الأمريكية، الأهم والأكبر في صناعة الصور الورقية عبر العالم كله خلال القرن الماضي، عندما حلت محلها وسائل صور «سيلفي» الإلكترونية الحالية.
إنهم يتحدثون عن اختفاء شركات التاكسي عندما تحل محلها سيارات الأجرة الأوتوماتيكية في المستقبل القريب، التي ستنقل البشر إلى حيث يريدون، وتستلم منهم الأجرة، من دون حاجة لسائق بشري يقودها. ومع هذا التحول سيزول نظام التأمين على حوادث السيارات بالكامل. إنهم يتحدثون عن الذكاء الاصطناعي، الذي سيجعل الحاجة إلى مهن مثل المحاسبة أو الاستشارات القانونية، أو بعض الاستشارات الطبية غير مطلوبة، إذ ستحل الوسيلة الإلكترونية الرقمية محل الكثير من تلك المهن.
بمثل تلك التغيرات، وغيرها الكثير، ستحل انقلابات هائلة في فرص ونوع العمل، بحيث ستكون هناك حاجة لإعادة تأهيل الملايين من القوى العاملة، ولإعادة النظر في النظامين التعليمي والتدريبي برمتهما.
أمام تلك المشاهد ستأتي تحولات غير محسوبة ولا متوقعة في المشهد العولمي، في نظامه الاقتصادي الرأسمالي، في علاقات الدول السياسية بعضها ببعض، في الصراعات الإقليمية والحروب بالوكالة، في التكالب على الاستحواذ على خيرات الطبيعة الناضبة. في قلب كل ذلك تكمن قضية القضايا، وهي مدى ونوع التأثيرات العقلية والنفسية والعاطفية والجسدية، التي سيصاب بها الإنسان من جراء تلك التغيرات، والتي بدورها ستقود إلى أنواع جديدة من العلاقات بين البشر على مستوى العائلة والتجمعات المدنية الأخرى.
ما زال العرب عاجزين عن بناء حضارتهم القادرة على التفاعل مع والانخراط في حضارة العصر
الكتابات والمحاضرات وندوات النقاش بشأن أخطار كل تلك المتغيرات المقبلة وبشأن سبل مواجهتها، أصبحت ظاهرة هائلة متشعبة معقدة من ظواهر هذا القرن.
إذا كان الأمر كذلك فإن طرح السؤال التالي على أنفسنا، نحن العرب، أضحى أمرا بديهيا، ما الذي يجب أن يشغل بالنا بمناسبة انقضاء سنة ومجيء سنة جديدة؟ هل يجب أن ننغمس في مناقشات الآخرين تلك، مع أننا نعلم جيدا أننا لا نساهم في صنعها، وأننا بالتالي لا نستطيع تغيير ذرة في مساراتها؟ ألن يكون ذلك انغماسا عبثيا متطفلا لا يقدم ولا يؤخر؟ أم أن المطلوب هو تحديد أولوياتنا الوطنية والقومية الجامعة والعمل على مواجهتها؟ أليس حل تلك الأولويات الوطنية والقومية هو المدخل لدخول عوالم حضارة المتقدمين، وبالتالي الانغماس المفيد والفاعل في مناقشاتهم التي أوجزنا بعضا منها؟ لنكن واضحين أكثر: هل تستطيع أمة مجزأة إلى بلدان ضعيفة عاجزة مسلوبة الإرادة، لا تنسيق في ما بينها في الاقتصاد والسياسة والأمن ومجابهة الأعداء المشتركين، أن تدعي بأنها قادرة على الانخراط في مواجهة مشاكل البشرية؟ هل تستطيع أمة تنخر مجتمعاتها علاقات مجنونة عبثية بليدة، طائفية وقبلية وعشائرية وعرقية، وينظم مجتمعاتها الاستبداد والفساد، وغياب القانون، وتداخل الصلاحيات، وعدم المساواة في الفرص الحياتية، هل تستطيع أمة كهذه أن تفيد في مناقشات مثل مستقبل الذكاء الاصطناعي؟
قائمة الأسئلة المماثلة طويلة، وتشمل كل جوانب الحياة المجتمعية، الحالية والماضية. والإجابة على تلك الأسئلة أولا، ثم الانتقال إلى مرحلة الفعل والحلول في الواقع ثانيا، هو ما يجب أن يشغل بال المفكرين والمثقفين الملتزمين بقضايا أمتهم. مرة أخرى نحتاج أن نذكر أنفسنا بعبثية مناقشات رجال الكنيسة أثناء حصار مدينة القسطنطينة، وذلك بشأن عدد الملائكة الذين يمكن أن يجلسوا على رأس إبرة. قسم كبير من أحلام وآمال وأمنيات بعض العرب، بمناسبة السنة الميلادية الجديدة، لا يختلف عن تلك المناقشات المضحكة في القسطنطينة المحاصرة، ما زال هؤلاء يتحدثون عن حل مشاكل حضارات الآخرين، بينما يعجزون عن بناء حضارتهم القادرة على التفاعل مع والانخراط في حضارة العصر.
كاتب بحريني