بعد إصداراته النقدية: «نكسة 5 حزيران 1967 في الرواية العربية» و»مقدمة في نظرية الأدب» و»الانتفاضة في الرواية» و»من إشكاليات النقد العربي الجديد» و»محمود درويش وأيديولوجية الشعر» و»الرواية العربية في فلسطين والأردن» و»مقاييس الأدب» وغيرها.. تصدر لشكري عزيز الماضي دراسة جديدة بعنوان «مناهج النقد الأدبي» بيروت 2020 .
ومن الانطباعات الرئيسية التي يخرج بها قارئ هذا الكتاب الضخم (456 صفحة) من النظرة الأولى، أنه كتاب تثقيفي مبسط يخاطب المؤلف فيه الشداة من الدارسين والطلاب. ونحن لا نشك في كفاية المؤلف ماضي في تقديم كتاب كهذا الكتاب نظرا لخبراته الطويلة والمتراكمة في تدريس مادتي النقد الأدبي، ونظرية الأدب في عدد من الجامعات العربية في الجزائر وفي الأردن وفي الخليج العربي. فهو في كتابه القيم هذا، يثير من الأسئلة ويطرح من الإشكالات أكثر مما يقدم من إجابات، في حرص لافت منه على استثارة فضول القارئ، لا على حشو دماغه بالمعلومات، لاسيما وأن مناهج النقد، والبحث فيها، والحديث عنها، من الأمور التي تثير من أوجه الاختلاف أكثر من أوجه الاتفاق والائتلاف. فمناهج النقد الأدبي يعنى بها الأديب، ويعنى بها الناقد الدارس، ويعنى بها القارئ، وهذه العناية تحتاج من أجل إشباع فضولها لعشرات من الكتب، كل منها في حجم هذا الكتاب.
فهو على سبيل المثال يتناول النقد الكلاسيكي بالمعنى الأرسطي، مرورا بالنقد الرومانسي، فالنقد التاريخي، فالنقد الاجتماعي، فالنفسي، مرورا بالأسطوري، منتقلا منه إلى النقد الجمالي، عابرا أفق الدراسات النقدية اللسانية، من البنيوية البارتية، إلى تفكيكية ديريدا، والنقد الثقافي إدوارد سعيد، والنسوي والأسلوبي ياكوبسون، والتأويلي أمبرتو إيكو، ولم يفته تخصيص فصل من 30 صفحة لنقد ما بعد الكولونيالية.
ونهجه في هذا التوليف نهج ثابت لا يخلو من تكرار النمط، فهو يبدأ بالحديث عن تعريف هذا النقد، فيعرف النقد الكلاسيكي والنقد الرومانسي والنقد الاجتماعي، إلخ. يعقب التعريف بالمنهج ذكر الأسس والمقاييس التي يستند إليها نقاده، أي معايير المفاضلة والتفاوت، ثم يقدم بعد ذلك مباشرة نموذجا تطبيقيا. ومن النماذج التي نجدها قصيدتان للبارودي وقصيدة لإبراهيم ناجي وأخرى للمقالح.. وفصل من كتاب نقدي لعز الدين إسماعيل عن «السراب» لنجيب محفوظ وهكذا… إلى أن تكتمل المناهج.. والتعريفاتُ عنده ـ في الغالب الأعم- مكثفة، ومختصرة اختصارا قد يكون كافيا لمن يخطون خطواتهم الأولى في طريق المعرفة بالنقد الأدبي، بيد أنه لا يفي الموضوع حقه لدى آخرين ممن تجاوزوا هذه الخطوة. فالكلاسيكية ـ على سبيل المثال ـ يعرّفها قائلا القديم، أو التقليدي، أو الاتباعي، والأدب الكلاسيكي هو الأدب العظيم، والمتفوق، القديم، الذي يظل عبيره فواحا مدى العصور والأزمان.
ومع أن الدارس الموضوعي للكتاب لا يرفض هذا التعريف، ولا يشكك في مدى سلامته ودقته، إلا أن الساعي للإجابة عن تساؤلات أخرى يثيرها التعريف، يقول: حسنا، لكن ما علاقة الكلاسيكية، من حيث هي مذهب أدبي نقدي بتطور التركيب الاجتماعي من القديم مرورا بالعصور الوسطى، وعصري النهضة والتنوير؟ ولو أن المؤلف استقبل من أمره ما استدبر لقال: إن الكلاسيكية مصطلح يطلق على الأدب والنقد، اللذين يعبران عن تلك المرحلة التي طغى فيها الإقطاع، وطغت فيها الارستقراطية على الحياة الاجتماعية، وعلى النمط الاقتصادي. فالكلاسيكية، بصرف النظر عن مواقفها من الشكل والمضمون، مذهب أدبي نقدي نشأ في بلاط الأمراء، وأروقة النخبة السياسية، وأبرز غاياتها، وأهدافها، كانت إمتاع الطبقة الأرستقراطية، وتسلية النخبة الحاكمة، وتهميش ما عداها من الطبقات.
كنا نؤثر أن يسلط المؤلف الضوء على الطابع الثوري لبدايات الأدب الرومانسي، وهذا في رأينا يعد ضرورة تمهد لحديثه الشيق عن الرومانسية في الأدب العربي. فقد اشار للعقاد، وإلى كل من ميخائيل نعيمة، وأبي القاسم الشابي، وعلي محمود طه، وجبران، وأبي ماضي، وأحمد زكي أبو شادي.
وقد تكرر هذا الاقتضاب في تعريفه المختصر للرومانسية، والنقد الرومانسي. ومع أنه ربط بين هذا المصطلح ونشأة الرومانسية في الأدب الغربي، وظهور (البورجوازية الصغيرة) والاهتزازات الكبرى التي خلخلت المجتمعات، زمن الثورة الصناعية، وما تلاه، وقيام الثورة الفرنسية، إلا أن تجاوزه هذه المعطيات اتصف بالتكثيف، الذي لا يتيح للقارئ المزيد من المعرفة بحركة العاصفة في الأدب الألماني، وتأثيرها في الأدب الفرنسي (فيكتور هوغو) وانتقال هذا الأثر إلى الأدب الإنكليزي (وردزوورث وكولردج) لقد قدم لنا ماضي إضاءة جيدة لمقومات المدرسة الرومانسية، واهتمامها بالخيال الخالق، وبالمشاعر الجياشة، واللغة الشعرية غير القاموسية، ونبذها التكلف والتقاليد النحوية الجامدة، في أمثلة توضح أن ما جاءت به الرومانسية لا يعدو كونه ثورة على الكلاسيكية الجديدة. وقد كنا نؤثر أن يسلط المؤلف الفاضل الضوء على الطابع الثوري لبدايات الأدب الرومانسي، وهذا في رأينا يعد ضرورة تمهد لحديثه الشيق عن الرومانسية في الأدب العربي. فقد اشار للعقاد، وإلى كل من ميخائيل نعيمة، وأبي القاسم الشابي، وعلي محمود طه، وجبران، وأبي ماضي، وأحمد زكي أبو شادي. وهؤلاء يمثلون نفرا ممن ثاروا على المدرسة الكلاسيكية الجديدة لدى كل من مطران وشوقي وحافظ والزهاوي والرصافي.. وقد اقتبس المؤلف من «الديوان في الأدب والنقد» (1921) ومن «الغربال» (1923) إلا أنه لم يوضح لنا كيف انقلب هؤلاء النقدة على المدرسة الكلاسيكية، بما لديهم من شعارات ثورية طبع بها شعرهم، ونقدُهم الرومانسي. وجاء التركيز- عوضًا عن ذلك – على المقاييس، وعلى الخيال، وعلى العاطفة الجياشة، والذاتية، ورهافة اللغة، بما فيها من تلقائية، وعفوية، تنأى بالقصيدة عن الافتعال والتصنُّع.
وقد فضل المؤلف تسمية المنهج التاريخي تسمية جديدة هي النقد التاريخي. ولو أبقى على الاسم كما هو لكان في رأينا أكثر دقة في الدلالة على مراده، لأن ما يفهم من النقد التاريخي، قد يكون نقد الأخبار والروايات التاريخية عن الحوادث والوقائع التي يعنى بها المؤرخون، وتمحيص الروايات الصحيحة من الكاذبة، والتحقق منها ونبذ الزائف. وعلى أي حال لا عبرة بالاسم، ويرى بعض ذوي النظر أن النقد المسمى بالتاريخي ليس نقدا. وقد عرض المؤلف لمصنفات طه حسين عن أبي العلاء وغيره بوصفها نقدا. ونحن لا نرى فيها نقدا، فكتاب عميد الأدب العربي عن أبي العلاء ثلثه عن عصر الشاعر، وثلث عن حياته وأخباره وشخصيته، والثلث أو ما هو أقل من الثلث عن شعره. أي أن النقد في مثل هذا المصنف لا يحظى إلا بنصيب اليتيم الغريب. وقل مثل هذا عن مصنفات الآخرين ممن اهتموا بهذا الشاعر أو ذاك اهتمام من يجمع الأخبار، والأشعار، ويشرحها شرح المتقدمين، متضمنا بين حين وآخر رأيا نقديا خجولا نجده بين السطور، لا يتجاوز الانطباع الذوقي. وقد كنا نؤثر أن يخصص المؤلف فصلا للنقد الانطباعي، فالانطباعية نهج نقدي شاع في الأدب الأوروبي، ومن أساتذته أوسكار وايلد الإنكليزي، وجول لوميتر وأناتول فرانس الفرنسيان. والنقد التاريخي يغلب على تلك السير التي كتبها النقاد للشعراء والكتّاب، وقد برع في هذا سانت بيف، وأسس أصوله كل من هيبوليت تين وجوزيف لانسون. وتأثر بهما طه حسين ومندور وغيرهما من كتاب السير والتراجم. وهي مؤلفات ينصبُّ فيها الاهتمام على الأخبار والشهادات، أكثر مما ينصب على الأدب ذاته، ففي هذا النقد تحتل شخصية الأديب موقع المتن، فيما يحتل عطاؤه الأدبي موقع الهامش.
لا يرى المؤلف في القراءة النفسية قراءة تاريخية، أو رومانسية، لهذا خصص الفصل الرابع للنقد النفسي. وهو نقد شاع كثيرا في أوروبا وأمريكا بين الحربين الأولى والثانية.
ولا يرى المؤلف في القراءة النفسية قراءة تاريخية، أو رومانسية، لهذا خصص الفصل الرابع للنقد النفسي. وهو نقد شاع كثيرا في أوروبا وأمريكا بين الحربين الأولى والثانية. وكثرت الكتب التي تقرأ الأدب قراءة نقدية اعتمادا على مقولات فرويد وإدلر وبرجلر وكارل يونغ.. وشق هذا النقد بمنهجيته الجديده طريقا معبدا للنقد العربي، فوجدنا العقاد يقرأ أبا نواس قراءة نفسية، وعلي شلق يقرأ الشاعر نفسه قراءة مشابهة، والنويهي يقرأ بشار بن برد من الزاوية النفسية، وعز الدين إسماعيل يصدر كتاب «التفسير النفسي للأدب». ومن تسميته للكتاب يلاحظ أنه لا يرى في النقد النفسي نقدا، وإنما يراه تفسيرا لا غير. وقد حظي عز الدين إسماعيل بنصيب الأسد في هذا الفصل، لأن المؤلف اقتبس فيه فصلا عن رواية «السراب»، كان قد نشر في كتاب التفسير النفسي. والصحيح أن الاختيار، مع جودته، وندرة ما يقاس عليه، لا يوضح للدارسين الآلية التي يطبق بها التحليل النفسي للأدب. فالمؤلف عز الدين إسماعيل لا يتناول نفسية نجيب محفوظ مؤلف السراب، وإنما يتناول شخصية كمال رؤبة لاظ – بطل الرواية – وما يعانيه من عقد نفسية طبعت حياته بالكثير من الاضطرابات النفسية والبيولوجية. في حين أن نظرية فرويد تقوم على أنّ النص الأدبي يعبر عن اضطرابات نفسية موجودة لدى المؤلف. وهو يعبر عنها في نصوصه الأدبية كي يتحرر، ويتخلص، من تأثيرها الضارّ، لا من تأثيرها في شخصيات الرواية، أو المسرحية. وكان الأجدى لو أن المؤلف عرض لكتاب العقاد عن ابن الرومي، أو أبي نواس، أو إحسان عباس عن السياب، أو كتاب النويهي عن بشار بن برد، على الرغم مما في هذه الكتب من اضطراب. علاوة على شيء آخر لم يتنبه له عزالدين إسماعيل، وهو أن نجيب محفوظ لم يكن مبدعا، ولا مبتكرا لشخصية رؤبة في «السراب»، وأغلب الظن أنه قلد في هذه الرواية رواية D.H. Lawrence الموسومة بعنوان Sons & Lovers . وأيا ما يكن الأمر، فإن وقوفنا عند فصول هذا الكتاب، فصلا تلو الآخر، قد يطول، ففيه 15 فصلا بعضها يمتد مئات الصفحات، لذا نكتفي بهذه الإضاءة متمثلين بقول المتقدمين»يكفي من العقد ما يحيط بالعنق».
٭ ناقد وأكاديمي من الأردن