منذ أيام قليلة، بدأت عملي الجديد بمؤسسة كارنيجي للأبحاث كمدير لبرنامج الشرق الأوسط في العاصمة الأمريكية واشنطن وكأستاذ مشارك لتدريس العلوم السياسية في جامعة جورج واشنطن. من بين أمور إدارية عديدة، كان علي لكي أنهي إجراءات بداية العمل أن أسجل لدراسة مادة «منع التحرش ـ تأمين العمل والحياة في مجتمع الجامعة» وأن أجتاز اختباراتها بنجاح.
مادة منع التحرش هي مادة إجبارية الاجتياز لكافة مكونات المجتمع البحثي ومجتمع الجامعة من طلاب وإداريين وعمال وهيئة أكاديمية وبحثية. تقدم المادة للمتلقين إلكترونيا على مدى ساعتين زمنيتين تقريبا. وتتنوع اختباراتها من أسئلة ثقافية واجتماعية وقانونية الطابع إلى نماذج واقعية لجرائم تحرش يطلب بشأنها من المتلقين تحديد نوع التحرش والوسائل المتاحة لتوثيقه والإبلاغ عنه ومحاسبة المتورطين به ومعاقبتهم جامعيا والظروف التي تحتم تجاوز الحرم الجامعي والتصعيد القضائي خارجه ضد المتورطين.
وفقا للوائح كارنيجي وجورج واشنطن، لا يقتصر تعريف جرائم التحرش في مجتمع الجامعة على تحرش الرجال الجنسي بالنساء (أو الجرائم الأقل عددا المرتبطة بالتحرش الجنسي العكسي أي تحرش نساء برجال)، بل يتسع ليشمل كل ما يحدث داخل قاعات الدرس والبحث والعمل وفي يوميات الجامعة ومساكن الطلاب من جرائم تمييز واضطهاد على أساس لون البشرة أو العرق أو الانتماء الديني أو القناعات الفكرية والسياسية أو تفضيلات الناس في علاقاتهم الإنسانية الخاصة.
على سبيل المثال، يعتبر تواتر إطلاق النكات العنصرية التي يتورط من خلالها منتمون إلى لون بشرة معين في سخرية مهينة من منتمين إلى لون أو ألوان بشرة أخرى جريمة تحرش تستوجب التوثيق والإبلاغ والمحاسبة. تعد أيضا العبارات التمييزية الصادرة من طلاب أو أساتذة أو عاملين أو باحثين أو إداريين ضد أقران ينتمون إلى أعراق مغايرة لهم أو يتبعون ديانات تختلف عن دياناتهم جرائم تحرش تنتهك حقوق الضحايا، وتعيق اندماجهم الإيجابي والبناء في المجتمع البحثي ومجتمع الجامعة، وتؤثر بالسلب على الأخيرتين كمؤسسات لنشر المعرفة والعلم والتفكير العقلاني المستند إلى قيمتي الحرية والمساواة.
كذلك تنص لوائح كارنيجي وجورج واشنطن، وهي هنا تعول كما توضح مادة «منع التحرش» على القوانين الاتحادية لعموم الولايات المتحدة الأمريكية وقوانين مقاطعة كولومبيا التابعة لها واشنطن والعديد من أحكام دوائر الاستئناف والمحكمة الدستورية العليا، على تجريم السخرية من آخرين والتمييز اللفظي ضدهم والتورط في اضطهادهم في قاعات الدرس والبحث والعمل إن بسبب القناعات الفكرية والسياسية (من اليمين إلى اليسار، ومن مناصرة شعبوية دونالد ترامب إلى رفضها)، بل وتجرم أفعال السخرية والتمييز والاضطهاد ضد أعضاء في مجتمع الجامعة سبق تورطهم هم في ذات الأفعال.
ليت مؤسساتنا البحثية وجامعاتنا في بلاد العرب تطور لوائح مفصلة لمنع التحرش وحماية حريات وحقوق وكرامة كافة المشاركين من طلاب ومساعدي بحث وإداريين وباحثين وأساتذة
يحظر، مثلا، على الطلاب والإداريين والأساتذة والباحثين المعادين للأفكار العنصرية والإيديولوجيات اليمينية إطلاق النكات للسخرية من نكات سبق لعنصريين ويمينيين إطلاقها. ويحظر الرد على العبارات التمييزية ضد أصحاب البشرة السوداء والداكنة أو ضد القادمين من بلدان أمريكا اللاتينية أو ضد اليهود والمسلمين بعبارات تمييزية عكسية، مثلما تمنع مواجهة اضطهادهم في قاعات الدرس والبحث والعمل باضطهاد عكسي.
ثم تتوسع لوائح المؤسسة والجامعة في اتجاه تجريم التمييز والاضطهاد على أساس التفضيلات الشخصية المرتبطة بالعلاقات الإنسانية الخاصة. ولأن المجتمع الأمريكي لم يتخلص بعد من ثقافة التمييز والاضطهاد ضد المثليين جنسيا والمتحولين جنسيا والمحايدين جنسيا ومن نزوع البعض إلى اضطهاد هذه المجموعات في الحياة المهنية؛ تفرد مادة «منع التحرش» مساحة واسعة لشرح التجريم الشامل الذي تحتويه اللوائح لكافة أشكال التمييز والاضطهاد المعنية هنا وإجراءات المحاسبة والعقاب المترتبة على التورط بها.
تصنف السخرية من الآخر المثلي جنسيا في قاعة درس أو مكتب مشترك أو سكن للطلاب أو مطعم جامعي كجريمة تمييز تستحق التوثيق والإبلاغ ومن ثم المحاسبة، تماما كاستبعاد المتحولين جنسيا من الترقي المهني أو اضطهادهم عند تقييم أداء الطلاب منهم أو الباحثين والأساتذة. ولأن ثقافة التمييز والاضطهاد ضد المحايدين جنسيا لم تزل مستقرة في يوميات حياة المجتمع الأمريكي، بالرغم من أوامر تنفيذية تضمن مساواتهم وتصون حقوقهم مررتها قبل رحيلها إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما، فإن مادة «منع التحرش» تشدد على أن لوائح المؤسسة والجامعة تحظر في كل الحرم الجامعي تعليق إشارات أو ملصقات أو صور أو كتابة عبارات قد تفهم كحاملة لمحتوى تمييزي ضد المحايدين جنسيا.
أما آليات التوثيق والإبلاغ والمحاسبة داخل المؤسسة والجامعة أو التصعيد القضائي خارجهما، فتعلم مادة «منع التحرش» المتلقين أن وحدات خاصة لمناهضة التحرش توجد في كل برنامج وكلية وقسم ومعهد وعلى كافة المستويات الإدارية والوظيفية. يتناوب على العمل في تلك الوحدات متطوعون من الطلاب وأعضاء الهيئة الأكاديمية والبحثية والإداريين، وينشطون للتوعية بحتمية عدم التهاون إزاء أنواع التحرش المختلفة وضرورة إدراك كونها جرائم تمييز واضطهاد لا ينبغي تجاهلها أو ممارسة الصمت بشأنها.
تنشط وحدات مناهضة التحرش أيضا لشرح الخطوات المحددة المطلوب اتباعها لتوثيق الجرائم التي تحدث والإبلاغ عنها ومراقبة إجراءات المحاسبة والعقاب التي تتخذ وهي إجراءات قد تصل إلى الفصل حين يرتبط التحرش باستغلال أستاذ أو باحث لنفوذه ضد طلاب أو مساعدي بحث وقد تصل إلى التصعيد القضائي خارج الحرم الجامعي في حالات ثبوت العنف اللفظي أو المادي وقد تحمل إلزام للمؤسسة وللجامعة بتقديم تعويضات مادية ومهنية وأدبية للضحايا من مساعدي البحث أو الطلاب أو العاملين أو الإداريين أو غيرهم.
ولأن المؤسسة والجامعة تظلان جهات لنشر المعرفة والعلم والتفكير العقلاني قيمها الحرية والمساواة، تشير اللوائح إلى أن نصوص تجريم التمييز والاضطهاد والتفاصيل الكثيرة المتعلقة بمناهضة التحرش لا يراد منها خلق بيئة للخوف أو لقمع حرية التعبير عن الرأي. بل يتمثل هدفها الأول في تمكين كافة مكونات المجتمع البحثي ومجتمع الجامعة من التمتع بالحرية دون انتهاك لحقوق وحريات الآخرين، ومن إدارة عمليات صناعة المعرفة والعلم والتفكير العقلاني في إطار من احترام التنوع في لون البشرة والعرق والدين والقناعات الفكرية والسياسية والتفضيلات الشخصية وبالقطع دون إخلال بالتزام المساواة بين النساء والرجال.
والهدف الثاني هو الارتقاء بالمجتمع البحثي وبالجامعة إلى المكانة التي تستحقها ويحتاجها إليها المجتمع، مكانة المؤسسات التنويرية التي تسبق غيرها من المؤسسات والقطاعات المجتمعية في مناهضة التمييز والاضطهاد وتحرير الثقافة السائدة من رواسبهما الطويلة والاحتفاء بالحرية والمساواة كقيمتين أساسيتين لحياة الناس.
ليت مؤسساتنا البحثية وجامعاتنا في بلاد العرب تطور لوائح مفصلة لمنع التحرش وحماية حريات وحقوق وكرامة كافة المشاركين من طلاب ومساعدي بحث وإداريين وباحثين وأساتذة، ليتهم يطورونها وينشطون كمنارات لمجتمعاتنا التي يثقلها التمييز والتحرش.
كاتب من مصر
الرجاء مشاهده هذه المحاضره لمعرفه العنصريه التي نواجهها كاكاديميين في امريكيا. https://m.youtube.com/watch?v=0n5a07dHE6s
نحن لدينا ديننا الحنيف الذي بنى لنا امبراطورية مترامية الأطراف
القوانين الأمريكية لا يجب اسقاطها علينا