كان الوضع السياسي بالمغرب في نهاية سنة 1959 وبداية 1960 يشبه إلى حد ما الوضع الحالي. كان الوضع السياسي والاجتماعي محتقنا وكان الحسن الثاني، والذي لازال وليا للعهد، قد أصبح شيئا فشيئا القائد الفعلي، والذي لا يشق له غبار، لكل أجهزة الأمن بما فيها الجيش والشرطة والاستعلامات. بدأ ولي العهد الشاب وغير الواعي بخطورة الأمر ومزالقه يستعمل مراقبته للأجهزة المسلحة في اللعبة السياسية بما في ذلك ضد كبار الشخصيات الوطنية بينما لم تمر على استقلال البلاد إلا أربع سنوات. فها هو يقود وفدا مكونا من ضباط عسكريين سامين ليحتج رسميا لدى والده الملك على ملتمس منتقد للجيش، أصدره الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، المقرب من بن بركة. بل ها هو يقنع والده بأن بعض أعضاء الاتحاد الوطني للقوات الشعبية والذي يقود أصدقاؤه الحكومة، قد تورطوا في جناية التحريض ضد السلامة الداخلية للدولة والنظام العام مع الإساءة للملك عن طريق الإعلام. هكذا أمر ولي العهد باعتقال عدد من قياديي الحزب والمقاومة وجيش التحرير. كان أشهر المعتقلين الفقيه البصري، زعيم «المنظمة السرية» للمقاومة ضد الاستعمار، وعبد الرحمان اليوسفي رئيس المجلس الوطني للمقاومة، ومحمد بنسعيد آيت رئيس مكتب المقاومة وجيش التحرير السابق بالبيضاء وبنحمو قائد جيش التحرير ـ جناح الجنوب.
اعتقل البصري واليوسفي بصفتهما مسؤولي جريدة «التحرير» بسبب انتقاد هاته الأخيرة للقصر والإشارة إلى ثروته والتي بولغ في وصفها بالهائلة. كان رد فعل الحزب والنقابة كما الحكومة ضعيفا ولم يتعد الدفاع عن المعتقلين وتبرئتهم أمام الملك أو في الصحف. أما حزب الاستقلال فقد عبر عن رضاه عبر صحافته لاعتقال البصري. شجع هذا الأمر ولي العهد الذي أضاف تهمة التآمر على حياته في لائحة الجنايات. بلغ عدد المعتقلين العشرات وأصبحت الصحافة المقربة من ولي العهد تتحدث عن «المؤامرة» وكأنها شيء واقع ومؤكد كما أشارت إلى اكتشاف مخازن عديدة للسلاح. سيطلق سراح البصري واليوسفي وايت إيدير وبنسعيد وغيرهم بعد أشهر قليلة لما تبين لمحمد الخامس بعد شهادات عدة من بينها رئيس المحكمة أنه لا مؤامرة هناك إذا استثنينا «كلام وتهديدات» بعض المقاومين الموجودين على هامش الحزب والغاضبين من سلوك ولي العهد المستفز وما يعتبرونه «احتقارا» للوطنيين عموما وللمقاومين على وجه الخصوص. مع مرور الوقت سينسى الحسن الثاني قضية «المؤامرة» وهكذا ولما سأله، بعد مرور ثلث قرن على الأحداث، الصحافي الفرنسي إيريك لوران، عنها في إطار حوارهما الذي دام أسابيع طويلة والذي سيصدر إثره كتاب «ذاكرة ملك»، سيجيبه الحسن الثاني بشكل عفوي وهو يستغرب: « مؤامرة سنة 1959؟ لا.لا أرى في زمن لا حق نعم ولكن..».
غادر بن بركة وهو محطم الوجدان ليس حزنا على ما وقع له أو خوفا من السجن ولكنه أصبح واعيا بأن المغرب سيفقد سنوات وربما عقودا في الصراع على السلطة نظرا لانحراف المسار العام
هذا الجو المكهرب والذي أصبحت تلعب فيه الاستعلامات والشرطة السياسية دورا متزايدا في الضغط على المنتقدين وإرهابهم هو الذي سيضطر المهدي بنبركة وهو آنذاك الشخصية السياسية الأكثر شعبية وتأثيرا بعد محمد الخامس وعلال الفاسي، إلى مغادرة البلاد في اتجاه المنفى وكان ذلك يوم 21 يناير/كانون الثاني 1960. فحسب شهادة لعبد القادر بن بركة فإن أخاه المهدي كان قد استبدل ثيابه الاعتيادية بجلابة مغربية من وبر الجمال تحسبا لأي طارئ وذلك بعد انطلاق حملة الاعتقالات التي مست بعض أصدقائه المقربين ابتداء من أواسط دجنبر/كانون الأول أي في عز فصل البرد بالمغرب. كما أنه هيأ محفظة خبأ فيها ملابس دافئة وبعض الكتب ووضعها قرب علبة الهاتف. نصح المهدي أخاه عبد القادر بمغادرة المغرب فورا حتى يتمكن من تدبير شؤون العائلة في حالة اعتقاله كما أن أمه المسنة كانت قلقة جدا على أبنائها وتبكي من حين لآخر. هكذا وبقدرة قادر أصبح أحد أكبر قادة مقاومة الاستعمار بل والأقوى على المستوى التنظيمي بين الزعماء الوطنيين، يشعر بتهديد سلامته وهو في عز منزله. غادر إذن بن بركة وهو محطم الوجدان ليس حزنا على ما وقع له أو خوفا من السجن ولكنه أصبح واعيا بأن المغرب سيفقد سنوات وربما عقودا في الصراع على السلطة نظرا لانحراف المسار العام. فالتفاهم بين الملكية والوطنيين أصبح في خبر كان وأصبح الكثير من الشباب النشطاء يحلمون بالجمهورية وبنظام تقدمي خالص بينما القطاع المحافظ يرى في توجه الملكية نحو الحكم المطلق حماية لمصالحهم وللتقاليد الوطنية للبلاد.
انتهى زمن التوافق الخصب وها هو المغرب ـ عوض أن يتابع بناء الدولة الحديثة وما يسميه بن بركة «المجتمع الجديد» ـ يدخل في دوامة إهدار الزمن الحضاري. لا شك أن مثل هاته الأفكار كانت تدور بخلد زعيم الاتحاد الوطني والطائرة التي تحمله لباريس لا زالت تحلق بالأجواء الوطنية. على كل سيكتب أو يصرح بن بركة بمثل هذه الأفكار أثناء منفاه. كما سيغير الزعيم اليساري أسلوب حديثه عن الملكية ليقترب من خطاب ثوار 1789 بل وقادة ثورة 1917 أحيانا. فمفاهيم الرجعية والحكم الفردي التي تصف مواقف واختيارات القصر أصبحت تجري على لسانه ولسان رفاقه بالحزب. بل وسيصرخ بن بركة مرة أمام آلاف المواطنين المتجمهرين بأحد أحياء الرباط الشعبية للاستماع إليه: «لا خضوع ولا ركوع بعد اليوم. لا ركوع بعد اليوم. أعيدوا».
وحتى صديقه المعتدل عبد الرحيم بوعبيد سيتكلم عن احتمال اتجاه المغرب نحو الفاشيستية بعد إعفاء حكومة عبد الله ابراهيم وتعويضها بحكومة يقودها الملك وولي عهده لأول مرة بعد الاستقلال. سيقضي بن بركة ما يقرب من السنتين والنصف بالمنفى ليعود في أيار/مايو 1962 للمشاركة في المؤتمر الثاني لحزبه ليرجع للمنفى من جديد بعد محاولة اغتياله في تشرين الثاني/نوفمبر من نفس السنة. سيوثق بن بركة أثناء سنوات المنفى علاقاته بزعماء العالم الثالث من ثوار ومصلحين كتشي غيفارا وكوامي نكروما وجمال عبد الناصر وأحمد بن بلا وجوليوس نيريري وغيرهم. كان نشاطه لا يتوقف وجاذبيته الشخصية تجلب نحوه في نفس الوقت كبار العالم من أصحاب السلطة والتأثير والثوار الشباب الحالمين بإنسانية جديدة.
كاتب مغربي
معلومات لا بأس بها. يمكن إضافتها.
كان المهدي بن بركة أنبغ رجالات وشباب الحركة الوطنية في المغرب. تواطأ الموساد وبعض المسؤولين والمجرمين الفرنسيين مع النظام الملكي في عهد الحسن الثاني على اختطافه واغتياله. من المؤسف أن تناقضات التيارات في الحركة الوطنية تم استغلالها لتوطيد الحكم المطلق في عهد الحسن الثاني ولي عهد ثم ملكا. كانت موازين القوى في غير صالح القصر الملكي قبل سنة 1960 و لم يحسم الوطنيون في وضع أسس نظام سياسي ديموقراطي آنذاك خاصة وأن بعض المسؤولين الفرنسيين ومنهم إدغار فور كانوا يحثون المفاوضين المغاربة على وضع أسس نظام الحكم الديموقراطي قبل رجوع مخمد الخامس من المنفى…وتلك أخطاء أقرها المهدي بن بركة في تقرير الاختيار الثوري.
بدأت ملامح الخلاف تنكشف بين جناحي حركة التحرير مباشرة بعد إجلاء المستعمر, فالتيار المحافظ بقيادة المرحوم علال الفاسي كانت له رؤية لبناء دولة ما بعد الإستقلال مخالفة لرؤية التيار التقدمي بقيادة البصري وبن بركة رحمهما الله, هذا الخلاف كان يشكل فرصة ذهبية لولي العهد الحسن الثاني الطموح للإستفراد بالسلطة الذي استطاع وفق استراتيجية *فرق تسد* أن يشغل الحركة الوطنية بصراعاتها الداخلية لتوطيد هيمنته على مؤسسات الدولة الفتية.
كنت منذ صغري أكن الإحترام لأساتذة الرياضيات لما كان لهم من ذكاء وقدرة على التكيف مع المتغيرات ومواجهة التحديات, بحكم أن الشهيد المهدي بن بركة كان أستاذ الرياضيات لولي العهد يومها الحسن الثاني أستغرب اليوم كيف أنه لم يدرك في وقت مبكر طموحات واستراتيجية تلميذه في الإلتفاف على دواليب الحكم وتهميش رموز الحركة الوطنية بعدها, كان من الممكن تأجيل الخلافات الفكرية بين جناحي حركة التحرير حتى ترسيخ دعائم دولة ديموقراطية والإحتكام إلى صناديق الإقتراع لإعطاء الشعب حقه الشرعي في اختيار النهج المحافظ أو التقدمي في بناء مشروع الدولة الحديثة, لكن للأسف تفوق دهء التلميذ على ذكاء أستاذه وها نحن اليوم لازلنا نعاني من تبعات هذا الصراع المبكر بين أقطاب جيش التحرير بعيد استقلال البلد.
لا ادرى لماذا فشلت كل التيارات الوطنية المستنيرة في الوصل الى بناء انظمة وطنية حرة ! في كل شمال افريقيا وحتى المشرق ! اي لعنة تتبعنا الى اليوم تحول دون البناء الديمقراطي؟
وليت الامر اقتصر على عدم بلوغ المشاريع التمام ؛بل يتجاوزها بقطع الرقاب وتحالف صديق البارحة مع عدو البارحة واليوم وغدا لقتل رفيق النضال والسلاح وابن وطني !!
بن بركة ؛عبان رمضان …..والقائمة لاتنتهي …
لازالت نفس مظاهر الصراعات الذاتية تهيمن على أوساط اليسار والتقدميين مما يعيد نفس واقع الاستبداد والانحراف